الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
الرسام النرويجي إدفارد مونش.. الفن انعكاس للمعاناة

كيوبوست- مدى شلبك
في ظل خسائر أليمة تكبدها منذ الطفولة، كانت أولاها وفاة والدته وهو بسن الخامسة، تلتها وفاة أخته الكبرى المحببة له، نشأ الرسام النرويجي إدفارد مونش Edvard Munch))، أحد أهم رواد مدرسة ما بعد الانطباعية، وصاحب أعظم لوحة في القرن التاسع عشر؛ “الصرخة” التي غالباً ما يخطئ البعض وينسبها إلى الرسام الهولندي فان غوخ.
السنوات المبكرة
كانت أولى لوحات إدفارد مونش (بالإنجليزية: إدوارد مونك)، الذي أظهر ميلاً مبكراً للرسم وتلقى تدريباً محدوداً، انعكاساً لمعاناته؛ “الطفل المريض” عام 1885م، التي صور فيها أخته “جوهان صوفي” وهي تحتضر، وذلك بعد وفاتها بنحو ثمانية أعوام، وتم اختيار اللوحة لمعرض الخريف في النرويج عام 1886م، وعُلِّقت قرب باب المدخل.
ولاقت اللوحة آراء متناقضة؛ فقد رأى البعض أن أسلوب مونش أضر بمسيرته الفنية، بينما رأى آخرون أن اللوحة أظهرت إحساساً بالحزن والمعاناة عندما شوهدت من مسافة بعيدة، ما جعلها عملاً فنياً عظيماً.
اقرأ أيضاً: في ذكرى حسن الكلاوي.. الفنان المغربي الذي شجعه وينستون تشرشل على الرسم
كما عانى مونش صحةً معتلةً كبقية أفراد أسرته، أجبرته على البقاء في المنزل غالباً، إضافةً إلى تعرضه لتربية دينية قمعية منذ ولادته عام 1863م في مدينة لوتن بالنرويج؛ فقد كان والده متديناً لدرجة التعصب، وفي هذا السياق ذكرت الروائية البريطانية “سو بريدو”، في سيرة ذاتية كتبتها حول مونش “Edvard Munch: Behind The Scream”، أن “تفضيل والده المعلن للعالم التالي.. أدى فقط إلى تضخيم شعور الابن بقرب الموت”.

بينما أُصيبت أخت أخرى له بمرض عقلي؛ ما دفعه لأن يلخص حياته قائلاً: “المرض والجنون والموت.. هي الملائكة السود الذين كانوا يحرسون مهدي ويرافقونني طوال حياتي”. وفي ما يتعلق بطفولته، رأى الأكاديمي الإماراتي محمود حسين، عبر تغريدة له على “تويتر” أنها: “جعلته مسكوناً بالألم والمعاناة والهواجس، وقد برع في حشد لوحاته بتلك الأحاسيس المضطربة”.
وعلى عكس القيم المتزمتة التي شبَّ عليها، تأثر مونش في بداية شبابه بالحركة السياسية والثقافية “هوكريستيانيا بوهيم”، التي نشأت في ثمانينيات القرن التاسع عشر في مدينة “كريستيانيا” (أوسلو حالياً)، وكانت الحركة تؤمن بالحب الحر.
آراء النقاد
خلال مسيرته الفنية، غالباً ما تلقى مونش ردود فعل سلبية من قِبَل النقاد، وفي عام 1892م دعته رابطة فناني برلين لعرض لوحاته في معرض فردي كبير، في اليوم التالي للافتتاح الرسمي وجه النقاد آراء قاسية إلى مونش، الذين رأوا أن اللوحات كانت غير مكتملة ومصقولة بسرعة، ما اعتبروه غطرسةً وكسلاً وازدراءً بحق عامة الناس وفن الرسم نفسه!
في حين لم تكن طريقة مونش بالرسم والصقل عشوائية، بل كانت تكتيكاً، وفي هذا السياق قال “غيرد وول”، كبير أمناء متحف مونش: “أراد مونش أن تبدو لوحاته غير مكتملة.. أن تكون خاماً وخشنةً، وليست ناعمة ولامعة، لتصور العاطفة”. كما قال الكاتب في مجال الفن “جوناثان جونز” عن فن مونش: “تكمن قوة فن مونش في الطريقة التي لا مثيل لها، والتي يخترق بها المظاهر الخارجية؛ ليكشف عن حقيقة العقل”.
اقرأ أيضاً: الانطباعية في الرسم.. التحرر من الكلاسيكية وتوثيق أثر الضوء على المشهد
ولم يكن مونش يهتم بالنموذجية، فبعد زيارته الأولى إلى باريس عام 1889م، أصبح متأثراً بأعمال رسامين مثل “تولوز لوتريك”، و”بول غوغان”، و”فان غوخ”، الذين تمردوا على البروتوكولات الأكاديمية للصالون الرسمي.
تجارب مؤثرة
كانت حياة مونش مشحونة بالعاطفة والأسى؛ فإلى جانب طفولته القاسية، تركت علاقاته العاطفية أثرها على مسيرته الفنية؛ إذ ترجم مونش (لم يتزوج قط) تلك المشاعر إلى لوحات، مثل لوحة “مصاص الدماء”؛ وهي واحدة من أكثر لوحاته شهرة، والتي رسمها إثر علاقته بزوجة أحد أبناء عمومته، وأخذت العلاقة شكل الرجل البائس والمرأة المسيطرة، وفقاً لما جاء في مقالة للصحفي “آرثر لوبو”.
وجسَّد مونش المرأة في عدة لوحات تتضمن إيماءات جنسية؛ مثل لوحة “مادونا” و”البلوغ”.

بينما خلَّفت وفاة والده عام 1889م شعوراً بالندم لدى مونش؛ لأنه لم يكن معه، وخرج بلوحة “ليلة في سانت كلاود” التي عكست حالته الذهنية، فقد طفا على اللوحة اللون الأزرق.
وفي نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبح إنتاج مونش غزيراً، وكان أبرز أعماله مجموعة لوحات أطلق عليها مجتمعةً “إفريز الحياة”، وعرضها في معرض في برلين عام 1902م، وكانت تتناول موضوعات نفسية تعبر عن حالته، مثل الكآبة والغيرة والقلق والموت، ما يتطابق مع رأي المحامي والأكاديمي الإماراتي د.محمود حسين، بقوله إن مونش “أسَّس نمطاً انسيابياً من الرسم يقوم على موضوعات نفسية”، وإن لوحاته “عكست حقيقة أن الحياة المعاصرة فككت الإنسان داخلياً وأدخلته إلى العدمية واللا معنى، وكأنه يهرول نحو الهاوية”.
“الصرخة”
أما أشهر لوحات مونش فكانت “الصرخة”؛ وهي من ضمن مجموعة “إفريز الحياة” التي رسمها عام 1893م، وتعتبر -وفقاً لحسين- “العمل الفني الأعظم بعد “الموناليزا”، كما أنها تعتبر “نافذة عكست ضعف واضطراب وهشاشة الإنسان المعاصر وانكساره الروحي”.
وعن مكونات اللوحة، قال حسين في سلسلة تغريدات له: “إن مونش صور الانكسار الروحي والقلق الذي نعيشه، في هيئة رجل أو امرأة أو مسخ يقف فوق جسر ويطلق صرخته الأبدية والأخيرة، وهو مصاب بذهول ويأس في عالم غريب، حيث السماء تفور باللون البرتقالي الداكن، ويتدفق منها الأزرق القاتم الكئيب، وينفذ من كل جوانب اللوحة الخوف والرعب والقلق”.

ووصف حسين الشعور الذي تجسده لوحة “الصرخة”، قائلاً: “اللوحة اخترقت الطبيعة كلها، من خلال صرخة مفاجئة وعظيمة”. وأضاف: “عندما تقف أمام هذه اللوحة لا يمكنك مقاومة إحساس غريب بالفزع واليأس الذي تحمله في تفاصيلها، مع شعور غريب بجمال التفاصيل يسهم في تكوين الحالة الانفعالية لنا كمتلقين”.
خلال مسيرته الفنية أنتج مونش نحو 1006 لوحات، يعتقد مؤرخون أن أفضلها كان قبل عام 1909م؛ إذ عاد إلى النرويج بعد سنين عاشها متنقلاً بين باريس وبرلين، وأصبح في بلده أقل اضطراباً وأكثر عزلة، وبهذا السياق قال مونش: “النصف الثاني من حياتي كان معركة لمجرد الحفاظ على استقامتي”.