الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
الرجل الذي سقط من الطائرة في كابول

كيوبوست- ترجمات
ليلى راسخ♦
كان زكي أنواري يمثل ما يمكن لأفغانستان تحقيقه، وكان موته المروع تذكيراً حياً بالخسائر البشرية للولايات المتحدة.
في الخامس عشر من أغسطس، كنت في مدينة في جنوب الهند؛ حيث انضممت إلى برنامج للصحافة بعد تخرجي في كلية الفنون الحرة في نيودلهي. في الخارج كانت تُجرى احتفالات باستقلال الهند؛ لكن كل ما كُنت أفكر فيه كان استقلال أفغانستان. كنت أتحدث إلى زميلة لي في الدراسة في مسقط رأسي كابول، عن استسلام الجيش الأفغاني لـ”طالبان” من دون قتال.
كنا نخشى سقوط كابول قريباً. وبينما كنا على الهاتف، أخبرها شقيقها أن “طالبان” دخلت المدينة. بدأت أرتجف، بينما أُصيبت زميلتي بالذعر؛ تحدثت بقلق عن تعليمها وسلامتها الشخصية: “ماذا لو قرعوا بابنا؟ سمعت أنهم يأخذون الفتيات بالقوة ويتزوجونهن”.
اقرأ أيضًا: لماذا لم يكن هنالك مسؤول أمريكي واحد في أفغانستان؟
في فترة بعد الظهر، جلست بصمت أقرأ الأخبار؛ علمت أن رئيس أفغانستان أشرف غني، قد فر من البلاد، شاهدت مقاتلي أفغانستان في القصر الرئاسي في كابول. لقد تم اختطاف وطني على الهواء مباشرةً.
لطالما كانت أفغانستان بلداً فقيراً مليئاً بالصعوبات؛ ولكننا أحرزنا بعض التقدم في العقدَين الماضيين. كان نظامنا السياسي معيباً إلى حد كبير؛ لكن الناس في المدن استمتعوا بقدر ضئيل من الحريات الشخصية، وبدؤوا بتحقيق أحلامهم. كنت أخشى أن تتم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عشرين عاماً. تغلَّب عليَّ شعور بالحنين إلى الوطن، غرق قلبي وشعرت بدوار شديد. قضيت اليوم التالي أتصل بأساتذتي وأصدقائي في أفغانستان، كنت غاضباً من الولايات المتحدة والأمم المتحدة؛ لتخليهما عنا. نشرت العديد من نداءات الاستغاثة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ شعرت أن خسارة أفغانستان ورؤية مقاتلي “طالبان” يمزقون علمها الوطني كانت مثل خسارة المرء والدَيه.
اقرأ أيضاً: طالبان في أفغانستان: تحليل لنقاط القوة والضعف
وبعد ظهر السادس عشر من أغسطس؛ اليوم الأول لحكم “طالبان” لبلدي، شاهدت طائرة تابعة للقوات الجوية الأمريكية تغادر مطار كابول. كان بضع مئات من الرجال يجرون وراء الطائرة بينما كانت تسير على المدرج، كان خوفهم على حياتهم ومستقبلهم هو ما جاء بهم إلى المطار بعد أن سرت شائعات بأن دولاً غربية تقوم بإجلاء الناس حتى دون تأشيرات الدخول إلى أراضيها. تعلق عدد من الرجال بعجلات الطائرة وبأجزاء من جسمها؛ أملاً في أن يحلقوا معها أياً كانت الوجهة التي تتجه إليها.

ذكرني هذا المشهد برحلتي عندما غادرت كابول، صعدت إلى الطائرة بتذكرة وجواز سفر وتأشيرة طالب وأمل في بناء حياة جديدة. ومثل معظم من تشبثوا بالطائرة الأمريكية، لم أكن أعرف كلمة واحدة من اللغة الإنجليزية، ولم أكن أعرف أحداً في الهند؛ ولكن عزائي الوحيد كان أنني سأعود يوماً بأمان إلى وطني. وهؤلاء الرجال في مطار كابول لم يكن لديهم هذا الأمل. شاهدت الفيديو عشرات المرات، وتساءلت مَن هم هؤلاء؟ وفكرت في مئات الآلاف من أبناء وطني الذين دفعوا حياتهم ثمناً لحروب بالوكالة شنتها قوى أجنبية مثل الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وباكستان، التي حولت وطني إلى رقعة شطرنج لألعابها الكبيرة ومصالحها الاستراتيجية.
في اليوم التالي، قرأت تقريراً على موقع “بي بي سي” نشر صورة شاب وسيم يرتدي قميص فريق كرة القدم الوطني للناشئين في أفغانستان، واصفاً إياه بأنه أحد الذين فقدوا حياتهم في مطار كابول بعد السقوط من الطائرة. كان عمره 17 عاماً، وكان اسمه زكي أنواري. كان أنواري في نفس عمري عندما غادرت أفغانستان. بحثت عن زكي أنواري على “فيسبوك” وتمكنت من التواصل مع شقيقه ذاكر أنواري. أرسلت إليه رسالة تعزية صوتية عبر تطبيق ماسنجر، وأجابني بعد بضع دقائق، وتبادلنا أرقام الهواتف، ووعدني بالتحدث معي يوم الجمعة المقبل.

كان ذاكر في عامه التاسع عشر، ويدرس العلوم السياسية في جامعة رانا الخاصة. قال لي ذاكر: “كان زكي سيتخرج في المدرسة الثانوية هذا العام، ما زلت لا أصدق أن أخي، أعز أصدقائي، قد مات”. وأضاف: “لقد ذهبنا إلى المدرسة نفسها، اشترينا الملابس نفسها، كنا نحب أن نتشابه بكل طريقة ممكنة”. كان ذاكر يخطط لإكمال دراسته العليا في جامعة في تركيا، وأراد زكي، كالعادة، أن يحذو حذو أخيه؛ ولكن ما حدث منذ عام بدد كل هذه الآمال والأحلام.
مع اقتراب موعد الانسحاب الذي حدده جو بايدن في 11 سبتمبر، بالنظر إلى رمزية هذا التاريخ وبغض النظر عن الواقع على الأرض، بدأت “طالبان” تستولي على المدن الأفغانية واحدة بعد الأخرى، وتدفق آلاف الأفغان إلى العاصمة بحثاً عن الأمان. ومع ازدياد أعداد النازحين تجمع عدد من الشباب في كابول لجمع الأموال؛ لمساعدة أبناء بلدهم الهاربين من بطش “طالبان”. انضم زكي إليهم وعمل بحماسة كبيرة.
اقرأ أيضاً: ماذا تعني عودة “طالبان” إلى السلطة في أفغانستان؟
وفي 15 أغسطس وصل مقاتلو “طالبان” إلى مشارف كابول، وانتشرت شائعات بأن دولاً أجنبية تقوم بإجلاء الأفغان من مطار المدينة. بعد نقاش بين أشقاء زكي الأكبر منه؛ توصل الجميع إلى أن شقيقه الأكبر ناصر، الذي كان يعمل في الخليج ويحمل جواز سفر، لديه فرصة للخروج من البلاد في إحدى رحلات الإجلاء. تم اتخاذ قرار سريع؛ ناصر سيغادر، وزكريا سيوصله إلى المطار بسيارته، وزكي سيذهب معهما لمراقبة السيارة.
وبعد رحلة استغرقت ثلاث ساعات عبر نقاط تفتيش تابعة لـ”طالبان”، توقفت السيارة عند نقطة تفتيش تابعة للجيش الأمريكي خارج المطار، انطلق ناصر وزكريا سيراً على الأقدام، وبقي زكي في السيارة. بعد وقت قصير تلقى ذاكر اتصالاً من زكي يخبره فيه أنه دخل إلى المطار من خلال ثغرة في السور، وأنه يقف إلى جوار الطائرة وسيحاول الصعود إليها. صرخ به ذاكر ليعود إلى السيارة؛ ولكنه قال له: لا تقلق، صلِّ لأجلي فقط.

عاد ذاكر إلى المنزل، وبعد وقت قصير تلقى مكالمة من هاتف زكي؛ ولكن المتصل كان شخصاً غريباً، أخبرهم أن زكي قد مات وأنه تعرف عليه من خلال بطاقته الشخصية. توجه ذاكر مع إخوته إلى المطار، وبينما هم في طريقهم، اتصلوا بناصر الذي كان قد صعد إلى إحدى طائرات الإجلاء وأبلغوه بالخبر السيئ، فنزل من الطائرة على الفور.
كان المطار غارقاً في الفوضى، ركض ذاكر في كل مكان كمَن أصابه مسّ، أخبره الناس أن الجثث قد نقلت إلى مسجد المطار، وعلى باب المسجد سأله رجل يقف هناك إذا ما كان يبحث عن جثة قريب له، وقال إن الجثث قد نُقلت إلى مستشفى المدينة؛ ولكنه عرض عليه صوراً للجثث كان قد التقطها بواسطة هاتفه المحمول.
قال ذاكر: “لقد تعرفت على صورة أخي على الفور، كان وجهه مشوهاً بسبب السقوط، لكني تعرفت عليه من ملابسه”. وأضاف: “كنا نسمع قصصاً مرعبة عن (طالبان) تفوق الخيال، أعتقد أن زكي أُصيب بالذعر بعد رؤية مقاتلي (طالبان) والحشود اليائسة في المطار. وفي صباح اليوم التالي نقلوا جثمان زكي إلى المنزل؛ حيث انضم عدد كبير من الغرباء إلى الجنازة وبكوا جميعاً بينما أظلمت السماء وأمطرت”.
♦طالبة أفغانية في الكلية الآسيوية للصحافة في تشيناي في الهند.
المصدر: فورين بوليسي