الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون خليجيةشؤون عربيةمقالات
الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان …وملامح من شخصيته الفقهية

كيوبوست
مسفر بن علي القحطاني♦
في يوم الاثنين 26 من رمضان 1444ه الموافق 17 أبريل 2023 ؛ توفي العلامة الفقيه الأصولي والمؤرخ الأستاذ الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان عن عمر يناهز 88 عاماً، وقد سبق أن تقلد مناصب علمية أهمها عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وغيرها من عضويات علمية كثيرة، أما مصنفاته العلمية فهي كثيرة ومتنوعة في عددٍ من الحقول الفقهية والأصولية والتاريخية والقانونية، نال خلال حياته الثرية؛ جوائز عديدة أهمها: جائزة الملك فيصل العالمية؛ فرع الدراسات الإسلامية، وكان موضوعها “التراث الحضاري في مكة المكرمة” عام 2015م، وليس المقام هنا؛ كتابة سيرته الذاتية، فحقّه أن يُفعل له ذلك، ولكن الغرض هو؛ محاولة تحليل شخصيته الفقهية، وذكر أهم الدروس التي تميزت بها، ويمكن ذكرها في مسائل على النحو الآتي:

أولاً: وضوح المنهجية العلمية في مؤلفاته، واهتمامه الكبير بترسيخ المنهج العلمي في تدريس الفقه وكتابة البحوث الفقهية، فلا غرو أن تجد عدداً من مؤلفاته في هذا المجال؛ أهمها كتابه الفكر الأصولي، ومنهجية الإمام الشافعي، ومصنفاته المتعددة في منهجية كتابة البحث، وهذا الاهتمام نبع من نظرته في احتياج الساحة الفقهية للعودة للمنهجية العلمية التي باتت تُفتقد في التدريس والنشر، وحلّ بدلاً عنها تداول الفتاوى وانتشارها، وبروز مكانة المفتي في الإعلام والوجاهة الاجتماعية، وأصبحت مدارس الفتوى وتناقلها بغض النظر عن حالة الفتوى وخصوصيتها أو زمانها أو مكانها، هي مجال الاهتمام والنشر والتدريس والتنافس بين طلبة العلم، واتسعت الفتوى الفضائية في كل الشؤون الحياتية التفصيلية؛ مع اتساع القنوات والبرامج الدينية، بينما حال الفقيه الباحث توارى عن الظهور، ولم يعد هناك احتفاء بالمنهجية الفقهية التي هي أصل الاستدلال، ومناط خلود الشريعة، ولا يتم تطور الفقه في الحياة إلا من خلال ممارسة النقد والمراجعة فيما مضى من تراث فقهي، وهذا لا يتحقق إلا بالعودة إلى المنهج القويم الذي اعتنى به الأصوليون بالتقعيد والتنظير العميق.

وإذا نظرنا إلى أهم جهود التجديد الديني في الإسلام، فإننا نلمس بوضوح دور المنهج الذي رسمه الإمام الشافعي في الرسالة، كما نلحظ أهمية خطط الغزالي في التصنيف المتدرج، ثم بإحياء الفقه البارد الذي ترسب في قلوب بعض الفقهاء؛ فماتت التزكية الروحانية مقابل التنافس على المناصب والأوقاف ومجالس الأعيان، ثم ظهر الإمام الشاطبي بمنهجية العودة للمقاصد الكلية في النظر والتحقيق، ومدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية في إعادة منهج السلف في الاعتقاد والفهم الأول للنصوص، وإذا كان اعتبار المنهج أساساً في هذا التطور والتجديد، فهو الأساس أيضاً في تطور الفكر العلمي والفلسفي في الغرب، ابتداءً من أرسطو وفرانسيس بيكون وديكارت، وغيرهم ممن كتب في المنهج، ورسم مساراً تجديدياً للنهوض العلمي والفكري.

ثانيا: قدرة العلّامة أبو سليمان في الجمع بين أكثر من تخصص عند دراسة موضوع فقهي له تفريعاته في العلوم الأخرى، وانعكس ذلك في جودة مؤلفاته وحسن تصنيفه؛ فعندما يتم مراعاة الزوايا الأخرى للفكرة وجمع المعارف التي توضحها؛ تثمر فهماً أعمق لمعرفة الحكم الفقهي المناسب لها، ولذلك تنوعت دراساته في الجمع بين الفقه والقانون والحقوق والتاريخ والفلسفة، وأعتقد أن هذه الموسوعية في النظر، تنامت معه من خلال مسيرته العلمية التي تنوعت فيها مدارسه، بدءاً من دروس الحرم المكي، ثم التعليم النظامي، ثم الارتحال العلمي للدراسة في بريطانيا، والتعرف على نطاقات من التفكير مختلفة عما اعتاده في الدرس التراثي، وهذا ما جعل حضوره العلمي في فقه النوازل المعاصرة ثرياً جداً، وأنا شاهد على ذلك في عددٍ من جلسات مجمع الفقه الإسلامي التي حضرتها، وكان موجوداً فيها. وأظن أن هذه الشخصية الثرية بالمعارف والمستنيرة بالتجارب أضحت قليلةً في ساحتنا الفقهية المعاصرة.
اقرأ أيضًا: دور الفتوى الإسلامية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة
ثالثا: السمت الخُلقي في شخصيته الفقهية، وهذا الجانب يشهد به كل من عرفه، وأذكر أني ناقشته بالهاتف في مسألة؛ فأظهر تواضعه المعروف وأنه ليس أهلا للإفتاء؛ ثم أكمل نقاشه التعليمي الراقي مع تلميذه الصغير، وأفادني بعدها بالحكم الصحيح. هذا النمط من الشخصيات العلمية تثبت بتواضعها للعلم منزلتها الكبيرة خُلقا ودينا، تحقيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إليّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ” رواه مسلم (2865)، ومع هذا التفوق في الخُلق والدماثة والتواضع؛ ربما عارضه بعض طلاب العلم الذين يرون أن الشكل الظاهري هو مقياس الفضل والمنزلة الكبيرة للفقيه، وقد مرّت بنا في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية ظواهر عجيبة من دعاة وطلاب علم، لا يسيرون إلا بمواكب من طلابهم، ولا يقبلون مناقشة مخالف، ويحتقرون من لا يطلق لحيته أو يسبل ثوبه، ويعدّون تلك المظاهر هي أساس القبول أو الرفض، مع نوع من التعالي على الخَلْق والتصدّر السريع لكل المسائل والوقائع، وهذا الشأن من التفاخر الشكلي اكتسب قبولاً بين الكثير من العامة، وأضحت منزلة الفقيه العالم ضحية لمثل تلك الاعتبارات الظاهرية.
هذه بعض الملامح الموجزة في شخصية الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان رحمه الله، وهي غيضٌ من فيض، وكما قالت العرب: “كل الصيد في جوف الفرا”، وفي سيرته الكثير من النوادر والنفائس، وحسبي أن هذا بعض الوفاء لهذه القامة العلمية المميزة.
♦أكاديمي سعودي