الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية
الدروس الحسنية الرمضانية بالمغرب.. رسائل حضارية ومعرفية وسياسية
يحضر إلى الدروس الحسنية العديد من نخب علماء وفقهاء وأكاديميي العالم العربي والإسلامي من جميع التخصصات وفنون المعرفة، كما تحضرها نخب فكرية وسياسية وعسكرية ودبلوماسية أيضاً.

كيوبوست
عادت الدروس العلمية والدينية التي يلقيها علماء دين وفقهاء وأكاديميون عرب أمام العاهل المغربي الملك محمد السادس، خلال شهر رمضان، بعد انقطاع اضطراري دام 3 سنوات متتالية بسبب ظروف وانعكاسات وباء كورونا؛ وهي الدروس التي اشتهرت باسم “الدروس الحسنية الرمضانية”.
وتلعب الدروس الحسنية الرمضانية، وَفق مراقبين ومتابعين للسياسة الدينية بالمملكة، دوراً معرفياً وحضارياً بارزاً، يعكس قيم الاعتدال والتسامح، كما تلعب دوراً في تغيير الصورة النمطية التي تم إلصاقها بالدين الإسلامي؛ لا سيما بعد انتشار حركات التعصب الديني والسياسي.
اقرأ أيضاً: المسارات التاريخية لمجالس “الدروس السلطانية الرمضانية” في المغرب
نبذة
تورد المعطيات التاريخية أن أول درس رمضاني تم إلقاؤه كان عام 1963 في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي فطن حينها -وقد تولى مقاليد الحكم سنتَين بعد وفاة والده السلطان الراحل محمد الخامس- بمدى أهمية العلماء في سياق اجتماعي وسياسي مشحون في البلاد في تلك الحقبة.
وعلى الرغم من أن هذه الدروس والجلسات كانت تُعقد قبل عدة عقود؛ فإنها انقطعت وجاء الملك الحسن الثاني ليعيد انبعاثها في فترة الستينيات من القرن الماضي، في محاولة منه، وَفق مؤرخين ومتخصصين؛ لمواجهة المد اليساري الذي كان يطالب بمطالب سياسية كان يراها القصر حيئنذ مهددة لوجوده واستمراره.

واستمرت الدروس تلقى في حضرة الملك الراحل، ودأب عليها الملك الحالي محمد السادس في شهر رمضان من كل سنة، باستثناء سنوات 2020 و2021 و2022، تغيبت فيها هذه الجلسات العلمية والدينية؛ بسبب أجواء “كورونا” وما أحدثته من احتياطات وإجراءات صحية عديدة.
ويحضر إلى الدروس الحسنية العديد من نخب علماء وفقهاء وأكاديميي العالم العربي والإسلامي من جميع التخصصات وفنون المعرفة، يتم استدعاؤهم من قِبل وزارة الأوقاف المغربية؛ بهدف إلقاء دروس يختارون موضوعاتها بعناية لإلقائها أمام حضرة ملك البلاد، كما تحضرها نخب فكرية وسياسية وعسكرية ودبلوماسية أيضاً.
اقرأ أيضاً: نموذج التدين المغربي يحارب التطرف بالتسامح و”إمارة المؤمنين”
درس وزير الأوقاف
ألقى وزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق، أول درس لهذا الشهر الكريم، يوم الأربعاء 29 مارس، في حضرة الملك، اختار له عنوان “ثمرات الإيمان في حياة الإنسان”، انطلاقاً من قول الله تعالى في سورة “النحل” (من عمل صالحاً من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
وفي ثنايا هذا الدرس الرمضاني الافتتاحي، أورد وزير الأوقاف المغربي أن هناك آلاف الدراسات النقدية للنظام العالمي الموجه لنمط الحياة؛ سواء من جهة نقد بعض الجوانب في الاقتصاد الليبرالي أو من جهة النقد الفلسفي لجوانب من فكر الحداثة، لافتاً، في هذا السياق، إلى صدور مجموعة من الكتب؛ أبرزها كتاب “محبة الآخر” للأستاذ بجامعة هارفارد، بيترم سوروكين، الذي يعتبر مؤسساً للسوسيولوجيا في الولايات المتحدة.

وتابع المحاضر: “لكي يتغير العالم، وَفق سوروكين، ينبغي أن يتم تحول في النموذج من إنتاج في حالة غياب التنظيم إلى حالة تنظيم يُعاد إعماله بقصد تلبية حاجات الناس أفراداً وجماعات”، مبرزاً أن “الكاتب استنتج أن هذا الأمر ليس طوباوياً؛ بل هو قابل للتحقيق”.
ويرى المسؤول الحكومي أن المسلمين اليوم على حال من حسن الاعتقاد، ولا يمكن لأحد أن يجادل في ظاهر إيمانهم، ولكن أي ملاحظ عادي لا يفوته أن يسجل أن عدداً لا يتشوفون في الغالب إلى حياة طيبة تجمع بين الكفاية والقناعة والعزة، وإنما يتشوفون، على الخصوص، إلى ظاهر هذه الحياة؛ أي إلى حسن الحال المنمط في جانب المعاش واللذة.
واستطرد بأن وقوع الخلل قد لا يدل على أن المسلمين عموماً قد فرطوا في الدين؛ ولكنه يعكس عدداً من الآفات التي أصابتهم في تاريخهم الديني، ومنها الآفة المتمثلة في كونهم ضخموا الاهتمام بالابتداع في الجزئيات ولم يولوا نفس الاهتمام إلى ما نقص في الكليات؛ وعلى رأسها السعي إلى التحلي الباطني بالإيمان وما يترتب عنه من العمل الصالح.

رسائل دينية وسياسية
ويعلق الخبير والمحلل الدكتور محمد شقير، على مدى أهمية الدروس الحسنية، بالقول إن هذه الجلسات التي درج عقدها منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، ويترأسها الملك بوصفه أميراً للمؤمنين، تحمل عدة رسائل دينية تتمثل في خلق فضاء رمضاني روحاني؛ لمناقشة المسائل الدينية باستضافة علماء وفقهاء دين من كل أطراف العالم الإسلامي، وبمختلف المذاهب الدينية؛ سواء أكانت سُنية أم شيعية.
ويشرح شقير، في تعليق لـ”كيوبوست”، بأن الأمر لا يقتصر على دعوة علماء من السُّنة بل أيضاً من الشيعة؛ إذ سبقت استضافة موسى الصدر ليلقي محاضرة من اختياره، الشيء الذي يعكس فضاء الحرية الدينية التي توفرها الدروس الحسنية، إلى جانب الحرص على استضافة كل جنسيات العالم الإسلامي؛ سواء من ماليزيا أو مالي أو لبنان أو مصر، مما يعطي صورة عن التنوع الإثني ووحدة الدين التي يدعو إليها الإسلام طبقاً للآية الكريمة “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”.
اقرأ أيضاً: انتعاش التدين في رمضان بالمغرب.. صحوة روحانية أم طقوس زائفة؟
وأردف بأن الدروس الحسنية تعكس البعد الحضاري القائم على التعايش بين مختلف الإثنيات والجنسيات والمذاهب المختلفة من خلال خلق أرضية للنقاش، وتبادل الآراء والتجديد في الدين؛ لإظهار الروح التجديدية للإسلام، وتبادل الأفكار والاجتماعات دون تعصب أو إكراه، بينما الجانب السياسي يظهر بالأساس في إعطاء صورة مختلفة للعالم عما يُشاع من كون الإسلام دين عنف وإرهاب.
وتابع شقير بأن هذه الصورة تظهر من خلال تحلُّق الحضور بمختلف مستوياتهم السياسية والعسكرية والإدارية، وكذا البعثات الدبلوماسية الإسلامية، حول الملك الذي يستمع إلى محاضر يحاضر في موضوعات علمية وفقهية؛ ما يجسِّد صورة إسلام العلم والنقاش بدل الصورة التي يتم ربطها بهذا الدين بعد انتشار حركات التعصب الديني والسياسي من “قاعدة” و”سلفية جهادية”.

رسائل حضارية
من جهته، يرى الدكتور أحمد البوكيلي، باحث في الفكر الإسلامي والحضارة بجامعة محمد الخامس، في تعليق لـ”كيوبوست”، أن الدروس الحسنية بالمغرب تتسم بقيمة معرفية وحضارية تنشر العديد من المبادئ والقيم خلال شهر رمضان.
واستطرد البوكيلي بأن هذه الدروس “تعكس تميز المملكة بمؤسسة إمارة المؤمنين ورعاية الملك للعلماء في مختلف بقاع العالم، وتعكس الأبعاد المنفتحة لإمارة المؤمنين على مستوى رمزية وحدة الأمة الإسلامية وتكامل كل المؤسسات العلمية المشكلة للنسيج الديني والمعرفي للحضارة الإسلامية”.
اقرأ أيضاً: المجالس العلمية بالمغرب تواجه رهان الوسطية والاعتدال
وتابع المتحدث بأنه “من أهم رسائل الدروس الحسنية أن الأصل في الدين هو بناء الإنسان وتشييد المدرسة الحضارية التي تؤكد أن جوهر غاية الدين هو إشاعة ثقافة الانفتاح والاعتدال والوسطية”، لافتاً إلى أنه “قبل مطالبة الحضارة الغربية بالعيش المشترك وثقافة الحضارات يجب أن نقدم هذا النموذج من داخل العالم الإسلامي”.
ووَفق البوكيلي، تعكس الدروس الحسنية الرمضانية العناية بمؤسسة العلماء، باعتبار أن المجال الديني محفوظ لهذه النخبة من الفقهاء وعلماء الدين؛ خصوصاً أن الفراغ العلمي هو الذي فتح المجال لخطابات التطرف والكراهية، وبالتالي يتم تأطير الأمة من زاوية مؤسسة العلماء من خلال هذه الدروس التي تبعث أيضاً برسالة مفادها أن الوظيفة الرئيسية لمؤسسة العلماء هي خدمة القيم الإنسانية وإشاعة الصورة الحضارية للخطاب الديني الملتزم بهذا الأفق الإنساني.