الواجهة الرئيسيةشؤون عربية
الدبلوماسية المغربية الجديدة تهاجم أوروبا.. والسر في ملف الصحراء
مراقبون لـ"كيوبوست": السياسة المغربية حازمة تعتمد على إعادة ترتيب الأوراق وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية وعلى أوروبا مراعاة هذا التوجه

المغرب- حسن الأشرف
انتقلتِ السياسة الخارجية المغربية من أسلوب الدفاع والاستكانة التي دأبت عليها طيلة سنواتٍ كثيرة خلَت، إلى سياسة خارجية “هجومية”، تنتج أفعالاً وردود أفعال قوية لفتت انتباه العديد من المراقبين والمحللين.
ولعل الخيط الناظم الذي يجمع بين كل المواقف “الهجومية” التي باتت تنهجها الدبلوماسية المغربية في الآونة الأخيرة هو قضية الصحراء، حيث أضحت الرباط تواجه نداً لند بلداناً وقوى أوروبية، بسبب اتخاذ هذه الدول مواقف في ملف نزاع الصحراء، تعتبرها الرباط معادية لمصالحها الاستراتيجية، وهو ما يعكس تحولاتٍ جذرية في الدبلوماسية المغربية الجديدة.
ويرى مراقبون ومحللون أن السر في تحول السياسة الخارجية للمغرب إلى إفراز مواقف هجومية تجاه بعض بلدان الاتحاد الأوروبي (ألمانيا، وإسبانيا، وفرنسا، على وجه الخصوص)، يكمن أساساً في استناد الرباط على ما اعتبرته قراراً تاريخياً باعترافِ الإدارة الأمريكية، في آخر أيام ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، بسيادة المغرب على الصحراء المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو المطالبة بالانفصال.
اقرأ أيضًا: التلون والحربائية يهويان بإخوان المغرب من القصر إلى البئر
وهكذا استدعى المغرب سفيرته لدى ألمانيا، في مايو الماضي، من أجل التشاور، بسبب ما وصفه “مواقف عدائية متراكمة من برلين، وانتهاكاً صريحاً لمصالح البلاد”، وهو ما ردت عليه الحكومة الألمانية بأنها اتهامات “لا تستند إلى أي أساس”.
واستدعى المغرب في شهر مايو الفائت أيضاً سفيرته في مدريد، جراء قبول إسبانيا علاج إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو، على أراضيها، من فيروس كورونا، لتستمر الأزمة طيلة أشهر، قبل أن تتحسن بشكل محتشم في الآونة الأخيرة.

وأما العلاقات بين الرباط وباريس فلم تسلم بدورها من المواقف الصارمة للدبلوماسية المغربية، آخرها وصف المغرب في شهر سبتمبر الماضي قرار فرنسا تشديد منح تأشيرات السفر للمغاربة، بكونه “غير مناسب”، فضلاً عن كون الرباط تحاول انتزاع موقف فرنسي رسمي وواضح بشأن الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، وهو ما لا زالت باريس تتلكأ بشأنه، رغم دعم هذه الأخيرة لمبدأ “الحكم الذاتي” للصحراء، والذي تقترحه المملكة لحل نزاع الصحراء.
دبلوماسية “حازمة”
وقال مصدر دبلوماسي في تصريحٍ لـ”كيوبوست”: “إن السياسة الخارجية للمغرب سياسة حازمة وليست هجومية كما يصفها البعض، تتسم بالوضوح خصوصاً بشأن ملف الصحراء، الذي يتصدر أولويات الدبلوماسية المغربية”، مبرزاً أن “الأمر يتعلق أساساً بالوحدة الترابية لدولة وشعب بأكمله لا يقبل أن يتم ابتزازه أو مساومته في هذا الملف الحساس”.

وتابع المصدر المسؤول، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، بأن “المغرب يتخذ مواقف صارمة تنسجم مع أطروحته الدبلوماسية الخاصة بوحدته الترابية التي ترفض لي الذراع من أي طرف كان”. وشدد المتحدث ذاته على أن “المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، وليس على الأطراف المعنية إلا التفاوض ليس على مغربية الصحراء، وإنما على إيجاد حل سلمي وسياسي ودائم للنزاع المفتعل”.
اقرأ أيضًا: من يدفع إلى الحرب بين الجزائر والمغرب؟
براغماتية سياسية
ويرى الدكتور إدريس لكريني؛ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن الدبلوماسية المغربية تمكنت خلال السنوات الأخيرة من خوض عدة محطات ضاغطة، واجهت مصالح المغرب الحيوية خاصة الصحراء.
ويردف لكريني، في حديثٍ لـ “كيوبوست”، بأن “مثل هذا الأمر شكل مناسبة للوقوف على الملامح الجديدة للسياسة الخارجية المغربية في عالم متغير”، متابعاً بأن “المغرب يسعى جاهداً إلى تكييف سياسته الخارجية مع التحولات الدولية القائمة والمقبلة”.

وسجل مدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات أن السياسة الخارجية المغربية أصبحت مبادرة إلى الفعل عوض إنتاج ردة الفعل، كما تأخذ بعين الاعتبار منطق الربح والخسارة بمنظورٍ استراتيجي عند اتخاذ مختلف القرارات.
ووصف المتحدث السياسة الخارجية الجديدة للمملكة بكونها “براغماتية” وذات أبعاد اقتصادية، بدليل انفتاح المغرب على مجموعةٍ من الدول من قبيل الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وبلدان القارة الإفريقية، دون التفريط في شركائه التقليديين داخل الاتحاد الأوروبي.
ويرى لكريني أن “الأزمة الدبلوماسية” مع إسبانيا وفرنسا أبرزت حجم التناقض بين الخطاب الرسمي لهذه الدول ومواقفها السياسية التي لا تخلو من عدائية للمغرب، مشيراً إلى أن المغرب بات مقتنعاً بأنه “لا يمكن إرساء شراكة مختلة تكون في صالح طرف واحد داخل هذه المعادلة، كما أنه مستعد لتمتين علاقاته مع شركائه التقليديين شرط أن تكون علاقات شمولية ومتكاملة ورابحة بالنسبة للطرفين معاً”.
اقرأ أيضاً: خسارة إسلاميي المغرب في الانتخابات نتيجة متوقعة لسياسات خاطئة
المغرب ليس “حديقة خلفية”
من جانبه، يرى الأكاديمي والمحلل السياسي؛ الدكتور محمد بن طلحة الدكالي، أن الدبلوماسية المغربية عانت طيلة سنوات عديدة من التبعية لحلفاء تقليديين (فرنسا، إسبانيا.. الخ)، لكن تخاذل هذه الدول خاصة حيال ملف نزاع الصحراء دفع صانعي القرار بالمغرب إلى تبني منهجية براغماتية تُقاطع الولاء للتحالفات التقليدية، وتجعل معيار المصلحة ضابطا للسياسة الخارجية.
ويؤكد الدكالي، في حديثٍ لـ”كيوبوست”، أن هذا التوجه الجديد للدبلوماسية المغربية شكَّل صدمة غير متوقعة للدول التي كانت تتعامل مع المغرب كأنه حديقتها الخلفية، واشتدتِ الصدمة بالاعتراف التاريخي للإدارة الأمريكية في عهد دونالد ترامب بالسيادة المغربية على الصحراء، إذ تم تسجيل الاعتراف الأمريكي وثيقة رسمية من وثائق مجلس الأمن الدولي.

بخصوص المواجهة المغربية الألمانية، فإن المغرب اعتبر دعوة ألمانيا مجلس الأمن الدولي للبحث في الاعتراف الأمريكي بسيادة المملكة على الصحراء بكونه موقفاً عدائياً، تسبب بعد ذلك في استدعاء المغرب سفيرته ببرلين للتشاور.
يقول الأستاذ الجامعي ذاته إنه “بدل أن توطد ألمانيا علاقاتها مع المغرب وتستفيد من خبراته الأمنية وتجربته في محاربة الإرهاب، فإنها استضافت ووفرت الظروف الملائمة لبعض الإرهابيين للتحريض على ارتكاب أعمال إرهابي في المغرب، من قبيل المدعو محمد حجيب الذي قضى سنوات في السجون المغربية على ذمة قانون محاربة الإرهاب، قبل أن يستقر بعد خروجه من السجن في ألمانيا”.
ولاحظ الدكالي أن ألمانيا تروم ابتزاز المغرب ومقايضته على خلفية ملفاتٍ اقتصادية بالأساس، ذلك أن ألمانيا لم تعد حاضرة في الأسواق المغربية بما يوازي قوتها الاقتصادية، وبالمقابل رفض المغرب هذا الشكل من الابتزاز والمساومة على مصالحه العليا متمثلة في صحرائه.

الجوار الحذر
وأما العلاقات المغربية الإسبانية، فيراها المتحدث قد مرت تاريخياً من عدة مطبات وعقبات، بدءاً من الوجود العربي في الأندلس، وما رافق ذلك من حضور مغربي قوي جسدته معركة الزلاقة التي ما تزال جرحاً غائراً في الذاكرة الإسبانية، ومروراً باحتلال إسبانيا لمناطق مغربية في الشمال والجنوب، ووصولاً إلى استقلال المغرب واحتفاظ الإسبان بمدينتي مليلية وسبتة في الشمال.
“هذه الأحداث جعلت علاقات البلدين تعرف باستمرار مداً وجزراً، وعلاقة الصداقة بين الطرفين ظلت دوماً حذرة، فإسبانيا لم تتحرر من عقدة التوجس وأسر التاريخ وعقدة الجغرافيا، وهي تنظر إلى المغرب كجار مزعج لا تريد أن يكون المغرب قوة اقتصادية إقليمية ودولية، رغم عدم تصريح مدريد بذلك”، يورد محمد بن طلحة الدكالي.
وعاد الدكالي إلى الوراء قليلاً، وتحديداً في يناير من السنة الماضية، ليعتبر أن قرار المغرب ترسيم حدوده البحرية في إطار القانون الدولي كان أحد مسببات التوجس الإسباني، مما خلق أزمة صامتة بين البلدين، وزاد الطين بلة الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، وهو ما أربك حسابات الإسبان، وشكل تحولاً مهماً على مستوى التوازنات الجيوسياسية”.
اقرأ أيضًا: لماذا قلصت فرنسا منح التأشيرات لمواطني المغرب العربي؟
ولفت الدكالي إلى أن الاعتراف الأمريكي فرض على مدريد إعادة ترتيب حساباتها في تعاملها مع الرباط بخصوص ملف الصحراء، لكونها (إسبانيا) فقدت أوراق ضغط قوية، كانت تستعملها في مفاوضاتها مع الرباط بشأن ملفات حيوية.
ودعا المحلل المغربي إسبانيا إلى إدراك أن موازين القوى الإقليمية بدأت تتغير، وأن دبلوماسية مدريد مطالبة بالارتهان إلى الواقعية، واستحضار الجهود المغربية في الحد من الهجرة غير الشرعية إلى الأراضي الإسبانية، وجهوده أيضاً في محاربة الإرهاب الدولي، وإرساء الأمن الإقليمي.
اقرأ أيضًا: قضية “بيجاسوس”.. المغرب يلجأ إلى القضاء الفرنسي ضد المشهرين
وبخصوص العلاقات مع فرنسا، يقول الأكاديمي المغربي إن باريس تفاعلت مع الخطوة الأمريكية بشكل محتشم، وبأنها لا تزال تنظر بعدم الرضا إلى خطوات المغرب بتنويع شركائه السياسيين والاقتصاديين والتقليل من تبعيته الاقتصادية والسياسية لها.
وختم الدكالي حديثه بالقول إن “المغرب ثبت أقدامه في إفريقيا جنوب الصحراء كأحد الشركاء البارزين مع تلك الدول، وهو ما لم يعجب المستثمرين، وصانعي القرار الاقتصادي والسياسي في فرنسا”.