الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

الحَوطة.. سبيل أجداد الحضارمة لتحقيق السلام

لم يقتصر دور الحَوطة على تحقيق الاستقرار في محيط مضطرب بل أصبحت وجهة لطلب العلم

كيوبوست- منير بن وبر

لا يكاد تاريخ أي بلد يخلو من الصراع أبداً؛ فما دام هناك اختلافات فردية وثقافية وفكرية وتباينات في المصالح، لن يكون فرض السلام والاستقرار داخل المجتمع سوى مهمة شاقة تنجح حيناً وتفشل حيناً آخر؛ ففي حين أن التنوع ثراءٌ للمجتمع، إلا أنه يحتاج إلى قوة فرض القانون لضبطه والسيطرة عليه.

السياسيون والحكام هم غالباً مَن يبدأ الحروب، كشكل من أشكال الصراع، وليس الجيوش أو الناس أنفسهم؛ لذلك فإن كثرة الحُكَّام وتنافس القبائل في مجتمع قليل الموارد، غير دقيق الحدود، ومختلف المذاهب الدينية، يمكن أن يبقي المجتمعات في دوامة لا تنتهي من عدم الاستقرار، وهذا ما حدث لقرون عديدة في حضرموت، جنوب اليمن؛ إذ لم تسلم من الفتن الداخلية أو الغزوات الخارجية التي أنهكت البلاد والعباد.

ولكن الصراع في كثير من الأحيان في حضرموت، حاله حال الكثير من الصراعات في التاريخ، لم يكن ضرورياً، أو مُبرراً كفاية، وربما كان من الممكن تجنبه ببعض الحكمة وضبط النفس والهوادة؛ وهذا ما دفع العديد من رجال الدين والعلماء إلى الاعتزال عن المجتمعات المضطربة وتأسيس مناطق عِلم مُسالِمة آمنة، أو تعيين مناطق محددة لتكون كذلك.

اقرأ أيضاً: كيف أصبحت صنعاء الحصينة مهددة بالتدمير؟

أُطلق على مثل تلك المناطق اسم حَوطة؛ أي منطقة محمية من أي اعتداء، يُفرض فيها السلام فرضاً بحكمة ووجاهة رجل الدين أو العالِم؛ فيُحرم فيها رفع السلاح، أو الأخذ بالثأر، أو إراقة الدماء بغير وجه حق؛ بل وتكون قِبلة لحل الخصومات بين الأفراد، وحتى بين الحكام والأمراء أنفسهم؛ ففي كثير من الأحيان يمكن أن يكون التوصُّل إلى سلام غير عادل بين الخصوم خيراً من حرب عادلة، هذا إن وجدت واحدة.

ويبدو أن مصطلح الحَوطة قد اُشتق من الفعل حوَّط. وحوَّط الرجلُ الشيء في اللغة يعني حفِظَه وتعهَّده بجلب ما ينفعه ودفع ما يضرُّه، وهذا بالضبط ما كانت عليه الحَوطة عند الحضارمة؛ ومن أمثلتها حَوطة أحمد بن زين، التي تعتبر من أشهر المدن التي أدَّت دوراً أساسياً في صنع السلام والاستقرار في حضرموت، والتي طُبقت فيها معايير الحَوطة بنجاح.

اقرأ أيضاً: عدن.. مدينة التسامح والتعايش والسلام

تبعد حَوطة أحمد بن زين عن مركز مدينة سيئون بوادي حضرموت نحو 14 كيلومتراً، وهي تتبع حالياً مديرية شبام. كانت المنطقة تُعرف باسم “خلع راشد” قبل أن يسكنها الشيخ أحمد بن زين الحبشي، وهو رجل علم ودين ودعوة، قدِم من منطقة “الغُرفة” المجاورة واستقر بـ”خلع راشد”؛ فعُرفت باسمه بدلاً من هذ الاسم حتى بعد وفاته في عام 1144 هجرية، أي نحو 1731م.

مدينة شبام الشهيرة بناطحات السحاب الطينية- وسائل التواصل الاجتماعي

في تلك الفترة، كانت بعض مناطق حضرموت تشهد حالات من التوتر وعدم الاستقرار بين القبائل؛ لذلك كانت حَوطة أحمد بن زين ملجأ للكثير من الناس، وهو ما أدى إلى زيادة عدد السكان الذين أتوا طلباً للأمن والعِلم. كما أصبحت سوقاً مهمة مزدهرة، بعد أن أَمِن الناس على تجارتهم وحياتهم. وقد كانت الحَوطة آمنة لدرجة أن الابن لا يمكنه قتل غريمه ثأراً لأبيه؛ حتى إن رآه نصب عينَيه.

ولم يقتصر دور الحَوطة على تحقيق الاستقرار في محيط مضطرب فحسب؛ بل أصبحت وجهة لطلب العلم في وقت تعطلت فيه الأنشطة العلمية من دروس دينية وثقافية، ولم يكن هناك سوى بعض الكتاتيب لتعليم الأطفال في بعض المدن والقرى. وقد كان دور أحمد بن زين امتداداً لدور الكثير من العلماء الحضارمة الذين لا تثنيهم الصراعات عن القيام بدور الإصلاح والشفاعة بين السلاطين والعامة على مدى التاريخ.

اقرأ أيضاً: دار المصطفى.. قصة منبر إسلامي معتدل من حضرموت

ومما يجدر ذكره أن طلب ونشر العلم، وما يخلقه من وجاهة وحظوة، لم يكن مقتصراً على الرجال فحسب، بل حتى النساء أيضاً؛ ومن بين أشهر أولئك النسوة الشيخة سلطانة بنت علي، من آل الزبيدي، والتي اتخذت لنفسها حَوطة تبعد نحو تسعة كيلومترات إلى الشرق من مدينة سيئون.

عُرفت سلطانة بنت علي بتصوفها ومشاركتها في المباحثات العلمية مع علماء عصرها. كما كانت تقول الشِّعرَ، ومنه ما تدافع به عن حق المرأة في طلب العلم وتحمُّل مشقة الحياة، تماماً كالرجل.

ويُحكى أن شاعراً هجا سلطانة يوماً، فقال: “يا ما سفهش ما بدا بَكْرة تماري جمال”؛ أي ما أكثر سفهك وأنت تسابقين الرجال في الجدال العلمي كالناقة تسابق الجِمال، فردَّت عليه بقولها: “الحِمل بالحِمل والزائد لبن وعيال”؛ أي أن الناقة تستطيع حمل ما يحمل الجمل من الأثقال، كما أنها تزيد عليه منفعة بقدرتها على الإنجاب وإنتاج اللبن؛ وهي تعني بذلك استعداد المرأة لمنافسة الرجل في طلب العلم ونفع المجتمع في مختلف الجوانب. وهكذا، عُرفت حَوطة سلطانة كوجهة للعلماء والسلاطين الذين يلتمسون من علم مؤسستها ووجاهتها، حتى تُوفيت سنة 845 هجرية، أي نحو عام 1441م.

منظر عام من وادي حضرموت- ” كيوبوست”

لقد كانت الوجاهة والهيبة التي يحظى بها أرباب العلم والدين في حضرموت معيناً مهماً على الأمن والاستقرار في الكثير من مراحل التاريخ، ولطالما استقطبت مناطق سكنهم القبائل والناس والتجار والمظلومين. ففي عام 1539م مثلاً، استوطن الشيخ أبوبكر العلوي منطقة تُعرف باسم عِينات، شرق مدينة تريم التاريخية، وقد كانت تُعرف بشدة اضطرابها، إلا أنها سرعان ما تحولت بقدوم الشيخ “أبوبكر” إلى قبلة للعلم والتجارة والتصالح والاستقرار؛ لما يكنه السلاطين والزعماء من احترام وتبجيل لذلك الشيخ. ومما يُذكر عن مجلس “أبوبكر” أنه كان يجتمع إليه الناس من كل مكان، حتى لترى في المجلس الواحد أناساً من اليمن والحجاز والشام والهند والسند.. وغيرها.

اقرأ أيضاً: لماذا ترك الحضارمة وطنهم؟

لقد كان اللجوء إلى إنشاء الحَوطات عند أجداد الحضارمة وسيلة فعَّالة لتجنب الصراعات، وفرض الاستقرار الذي ينتج عنه الرخاء في المجتمعات. وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك سوى نتيجة لجهود القائمين على الحَوطة، والذين تُسعفهم في مهامهم وحُسن شفاعتهم بين المتخاصمين، اللباقةُ والوجاهة والمثابرة والحكمة وثقل العلم والنسب، فكانت تلك الجهود صمام أمان من الإراقة البشعة للدماء؛ فكما يقول الجنرال الأمريكي هربرت نورمان شوارزكوف: “كلما تعرَّقت أكثر من أجل السلام، أي بذلت أقصى جهدك، نزفت أقل في الحرب”.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

منير بن وبر

باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج

مقالات ذات صلة