الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية
الحضارة السودانية المسروقة.. كنوز أثرية في المتاحف الأوروبية

كيوبوست- عبد الجليل سليمان
على ضفاف النيل وبينه والبحر الأحمر في شمال السودان والمنطقة النوبية من جنوب مصر؛ نهضت ممالك كوش، وبعد 5 قرون من سقوط مملكة كرمة؛ ظهرت مملكة أخرى بشمال السودان الحالي عرفت باسم مملكة مَرَوي أو (كوش).
وتقع آثار مروي على الضفة الشرقيِّة للنيل كامتدادٍ لحضارات كوش العريقة في الفترة من 750ق.م الى 350م. وقد اشتهرت بصناعة الحديد وأطلق عليها حديثاً (برمنجهام إفريقيا) وتعني مروي وهي كلمة هيروغليفية (جزيرة) بالعربية. وقد كانت لها علاقات اقتصادية وتجارية واسعة مع الحضارات التي عاصرتها كالفرعونية والرومانية والإغريقية والهيلينية والأكسومية الحبشية لاحقاً.
اقرأ أيضاً: عبقرية لوحة “خلق آدم” تُغضب إسلاميي السودان
وتأسست العاصمة الفعلية لكوش في مروي؛ بلدة (كبوشية) الحالية؛ في وقتٍ مبكر مع أن ملوكها شيدوا أهراماتهم بالقرب من نبتة حتى حوالي عام 300 ق.م. وأصبحت مروي مدينة عظيمة تضم مركبات صناعية ومعابد ضخمة، مع مدينة داخلية تضم قصوراً، وضريحاً به بركة كبيرة، وأعمدة تنبثق منها المياه، ومراصد فلكية.
الفاندلسم/ النهابون:

بالنسبة للدكتور محمد آدم الحمدابي؛ الأستاذ المُساعد بقسم التاريخ في كلية الآداب (جامعة الخرطوم) فإنّ موضوع الآثار السودانيّة وحمايتها ظلّ أحد أكبر اهتمامات أصحاب الشأن والحريصين عليها.
وقال الحمدابي في إفادة حصرية خصّ بها (كيوبوست) إن عراقة الحضارة الكوشية السودانية دفعت العديد من المهتمين بالآثار عالمياً مثل؛ رايزنر، كيندال، شارلي بونيه، كلود رييه، قريفث، هينتزا، مكادم، أركل، أدمز، وألس بدج، كراوفورد، شيني، وغيرهم، إلى التنقيب في المخلفات التي تركها لنا الأسلاف، ساهمت أعمال هؤلاء الآثاريين في الكشف عن أعرق حضارة بوادي النيل فكانت الأهرامات الملكية بـ(جبانتي نوري ووشمال وجنوب البجراوية) من أعظم الاكتشافات لاحتوائها كنوزاً أثرية عظيمة وذات قيمة حضارية ومادية عالية جداً؛ ما دفع عدداً كبيراً من الأجانب من ضعاف النفوس -بحسب تعبيره- على نهبها؛ مثل الطبيب الإيطالي (جوسيبي فرليني) الذي نهب هرم الكنداكة (أماني شخيتي) وقام ببيع مقتنياته ومحتوياته على الملأ؛ في جريمة لم يشهد مثلها، ثم توالت السرقات حتى من قبل بعض وتعددت طرائق النهب تارة تحت غطاء ما يسمى بالتنقيب عن الذهب في شمال السودان؛ حيث يعثر المنقبون العشوائيون على مخلفات أثرية؛ يعمدون إلى بيعها أو صهر معدنها الذهبي وبيعه كخام.
اقرأ أيضاً: العصيدة والحلو مر يتسيدان المائدة الرمضانية السودانية
يستطرد الحمدابي؛ مفصلاً: هؤلاء نطلق عليهم “فاندلسم – “Vandalism وهي كلمة مشتقة من اسم قبيلة الوندال أحد فروع الجرمان الذين أسقطوا الامبراطورية الرومانية، وكان الوندال أكثر المجموعات هدماً للحضارة والآثار؛ لذلك صاروا مضرباً للمثل لكل من يُخرب وينهب المقتنيات التاريخية الثمينة.
صمت وتواطؤ رسمي:

للأسف -يضيف الحمدابي- تم نهب الآثار السودانية، بهذه الطرق الملتوية؛ والآن تعج بها أكبر وأعظم المتاحف العالمية مثل اللوفر، وبوسطن للفنون الجميلة، والمتاحف المصرية؛ وهذه لعمري حكاية مؤلمة تطول وتطول، وعدد من المتاحف العالمية الأخرى، ولعلم القراء فإنّ أكثر مادة أثرية جاذبة بالمتاحف هي الآثار الكوشية السودانية، وليس للسودان أي نصيب من هذا الدخل. كما أن كل الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان شريكة في هذا الإهمال، وعلى رأسها حكومة عبود التي قدمت مدينة حلفا القديمة وأراضي أثرية مهمة جداً كمهر لبحيرة السد العالي، وهذه أكبر جريمة في تاريخ الآثار السودانية لأنها طمست معالم أثرية مهمة جداً لم يتم التعرف عليها بعد.

وعلى النقيض نجد أن هنالك بعض الجهات أو الأشخاص يحاولون حماية الآأثار من عبث المخربين لكن هؤلاء قلة وليس لهم من المقومات ما يساعدهم على حماية الآثار، فتجدهم في شكل مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي، لا حول لهم ولا قوة لكن تلمح فيهم علامات الحماس والاجتهاد، لكن الإمكانيات تحول دون الطموح.
ويختم الحمدابي بقوله: إنّ موضوع حماية الآثار السودانية يشكل أهمية قصوى نسبة لعراقة هذا الإرث وأهميته ليس للسودان فقط وإنما للعالم بصورة عامة، خصوصاً بعد الدراسة الحديثة التي قام بها بروفيسور منتصر الطيب؛ عالم الجينات وعدد من العلماء الأجانب أصحاب التخصصات المختلفة؛ حيثُ اعتمدوا فيها على تحليل DNA بعنوان “السودان باكراً وما قبل التاريخ”، وتدور فرضيتها الأساسية على أن السودان هو أصل البشرية.
كنوز السودان المفقودة

من جهتها، أشارت أستاذة التاريخ والحضارات القديمة المشاركة بجامعة الخرطوم وجامعة الملك خالد بالمملكة العربية السعودية حالياً؛ الدكتورة “أمل باديّ”، في حديثها إلى “كيوبوست”، إلى أن أهم الكنوز الأثرية السودانية هو كنز الملكة أماني شاخيتي، فالسودان القديم أو كما كان يطلق عليه أهله قديماً (كوش)؛ وهو اسم ظهر على مسرح السياسة الدولية منذ النصف الأول للألفية الثانية قبل الميلاد، زاخر بإرثٍ تاريخي وحضاري ضخم ومتنوع؛ فوجود الإنسان في وادي النيل قديم قدم السودان نفسه؛ فأول وجود للإنسان في هذه المنطقة كان في بلدة “سِنجة” السودانية علي النيل الأزرق؛ وتم الكشف عنه في عام 1924؛ وكان السودان آنذاك تحت الحكم البريطاني، وهو الآن ضمن مقتنيات المتحف البريطاني.

تواصل “باديَّ” حديثها إلى “كيوبوست”: من هنا بدأ إنسان السودان القديم يكتب تاريخه الحضاري مُتنقلاً في وادي النيل؛ صانعاً لأدواته الحجريَّة؛ ومُكتشفاً لأول مرة في إفريقيا؛ كيف يصنع أدواته الفخارية؛ فنال بذلك شرف أول صانع إفريقي.
مائدة الشمس الإلاهية:
تكشف “باديّ” لـ”كيوبوست” أنّ اهتمام العالم الخارجي بالآثار في هذا البلد الغني بثرواته الطبيعة والمعدنية منذ عصور مبكرة جداً؛ فكان يمد مصر بحاجتها من حيوانات وأخشاب ومعادن؛ خاصة الذهب، وشغل اهتمام الإغريق والرومان فسعوا إلى خلق علاقات معه وإرسال البعثات لاستكشافه، وقد سمعوا عنه الكثير من القصص، ولعل ما ورد علي لسان “هيرودوت” الكاتب الإغريقي الشهير في متنصف القرن الخامس قبل الميلاد ما يؤكد حيث ذكر أن الملك “قمبيز” أرسل بعثة وديّة إلى ملك مروي السودانية؛ لكنها تجسسيِّة في طابعها، كان الهدف منها التأكد من سر مائدة الشمس التي تملأها الآلِهة بشتى صنوف الطعام ليلا؛ ليأكل منها فقراء المدينة صباحاً، بجانب التعرّف على سر ينبوع الحياة الذي قيل إنّه موجود في مملكة مروي، وقد ذهل أفراد هذه البعثة -بحسب هيرودوت- من الثراء الفاحش لهذه المملكة.

تمضي باديّ قائلة: منذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي، بدأ اهتمام الأوروبيين بالتنقيب عن الحضارة السودانية وآثارها؛ ولعل تلك الفترة لم يكن السودان يملك من أمره شيئاً إذ كان تحت الحكم العثماني، بيد أنّ الرحالة والإخباريين حفظوا الكثير من المعلومات والرسومات التي كانت بالمعابد والمقابر السودانية، غير أن الأمر لم يخل من تسبب بعضهم في ضياع وتدمير بعض الكنوز الأثرية المهمة؛ كما فعل الطبيب الايطالي فرليني.
فرليني الإيطالي وسرقة كنوز مروي
وكشفت “أمل باديّ” عن تدمير هرم الكنداكة أماني شاخيتي أو شاخيتو؛ وهي ملكة مروية محاربة، وواحدة من أشهر ملكات الحضارة الكوشية السودانية القديمة، وسرقة الكنوز الأثرية التي كانت بداخله به. وأضافت: يُعتقد أن شاخيتي حكمت مروي منذ عام 10 قبل الميلاد إلى العام الأول الميلادي، وعُثر على اسمها في مخطوطة ببلدة مروي، حيث وصفت فيها بالملكة والحاكمة معاً.

وأشارت (باديّ) إلى أن الطبيب الإيطالي “جوزيف فرليني” قدِّم إلى السودان عام 1834 ووصل عام 1837م إلى أهرامات البجراوية؛ 200 كيلومتر شمالاً من الخرطوم، و500 متر عن مجرى نهر النيل، حيث مدافن ملوك وملكات “مروي” فعمد إلى أفضل الأهرامات شكلاً وأكبرها حجماً الهرم (رقم 6) وشرع في تفكيكه، حيث عثر على كنز هذه الملكة في مخبأ سري فأخذها إلى أوروبا وعرضها على متاحفها التي سارعت بشرائها، وبعضها معروض الآن في متحفيّ ميونخ وبرلين بألمانيا، وهو الكنز الذي يحتوي على قطعٍ فنية ذهبية غاية في الروعة والجمال، تعكس ملامح هذه الحضارة السودانية الثرية.