الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون دولية
الجرح النازف في قلب أوروبا ما بعد هتلر
استمرت الحروب الصغرى والإبادات العرقية والطائفية والقتل على الهوية حتى 1950

كيوبوست
(1945- 1950).. خمس سنوات في القرن العشرين ربما كانت هي الأصعب والأخطر في تاريخ أوروبا بل العالم بأسره، خمس سنوات تمت فيها صياغة خريطة الكرة الأرضية بأسرها؛ نظمًا وحكومات وحدودًا، توارت أيديولوجيات وصعدت أخرى؛ انتهت الحرب العالمية الثانية بدمار مهول، ولم تنتهِ الصراعات حتى اللحظة.
ألف سنة إلى الوراء
في الفيلم الوثائقي الخطير “ما بعد هتلر” (90 دقيقة على جزءين باللغة العربية: الجزء الأول والجزء الثاني)، ثمة رواية لأكبر مأساة بشرية في التاريخ؛ سردية الإنسان الذي تحزنه الحروب ويشقيه ما تعود به على الإنسانية من دمار ووقوف بدولاب المدنية عن التقدم، وإذا أهازيج النصر تتناقل أنغامها حتى لتردد في الآذان رنات المراثي الفاجعة. وقد كان هتلر على رأس تلك الشرذمة ممن ضيَّعوا جهود البشرية وبددوها في أتون الحديد والنار والدم.
وضعت الحرب العالمية أوزارها بإعلان استسلام ألمانيا وانتحار هتلر، ينطلق الفيلم من اللحظة التي يدخل فيها القادة المنتصرون برلين لتوقيع اتفاقيات الاستسلام وبحث مصير ألمانيا بل مصير أوروبا كلها في ما بعد هتلر.. يصف الراوي بصوته الثقيل الحرب العالمية الثانية بأنها “أسوأ كارثة عرفتها القارة”.. أوروبا الخصبة تحوَّلت إلى قارة جرداء، لقد أعاد هتلر الناس في ألمانيا ألف سنة إلى الوراء.
آثار مروّعة
الحرب العالمية الثانية؛ إنها الحرب، التي تعد -وَفق أي معيار يمكن تصوره- الصراع الأكثر تدميرًا في تاريخ البشرية، تسببت في مستويات لا نظير لها من الموت والدمار والحرمان والفوضى. يعرض الفيلم بعض آثار الحرب المروعة التي خلفت 60 مليون قتيل؛ قرابة ثُلثيهم من المدنيين. تكبَّد الطرف الخاسر للحرب؛ دول المحور المكونة من ألمانيا واليابان وإيطاليا، أكثر من 3 ملايين قتيل من المدنيين، وتكبَّد الطرف المنتصر؛ الحلفاء، أكثر من هذا الرقم بكثير: إذ لقي نحو 35 مليون مدني حتفهم جراء الحرب.
اقرأ أيضًا: مؤشرات الحرب العالمية الثانية تظهر اليوم، فهل حان موعد الثالثة؟
كانت نسبة الضحايا مذهلة؛ إذ لقي نحو 10 إلى 20 في المئة من إجمالي سكان الاتحاد السوفييتي وبولندا ويوغوسلافيا حتفهم، وتراوحت النسبة بين 4 و6 في المئة من إجمالي سكان ألمانيا وإيطاليا والنمسا والمجر واليابان والصين. ومثلما يستمر عدد ضحايا هذا الصراع العالمي الطاحن في الاستعصاء على أي جهود إحصائية دقيقة، فإن فداحة الخسائر البشرية التي حصدها تظل بالتأكيد مستعصيةً على الاستيعاب على نحو صادم بعد مرور جيلَين على انقضاء الحرب العالمية الثانية، تمامًا كما كانت عقب انتهاء الصراع مباشرةً.
الأرض الخراب
بنهاية الحرب عمَّ الخراب أغلب القارة الأوروبية. وقد وصف رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بكلمات قوية ليست بالغريبة عليه، أوروبا ما بعد الحرب بأنها “كومة من الأنقاض، ومقبرة، وأرض خصبة للأوبئة والكراهية”. ووَفق تعبير المراسل ويليام شيرر، فإن برلين كانت “أرض خراب تام، ولا أظن أن دمارًا وقع من قبل قط على مثل هذا النطاق”.
لكن نهاية الحرب لم تكن إعلانًا بنهاية العنف؛ لم ينتِه العنف، استمرت الحروب الصغرى والمناوشات والإبادات العرقية والطائفية والقتل على الهوية في ما بين سنتَي 1945 و1947 في دول أوروبا الشرقية التي كانت تحت سيطرة النازي وتحررت بسقوطه.
اقرأ أيضًا: عدد اليهود في عالم اليوم أقل مما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية
يتعقَّب الفيلم ببراعة الخيوط المتشعبة في أوروبا ما بعد موت هتلر، في ألمانيا وما جرى فيها ومصيرها.. في الدول المتاخمة شرقًا وغربًا، اندلعت دوامات الكراهية والعنف والخوف والانتقام؛ ضحايا النازي والناجون من الإبادات ومعسكرات الاعتقال خرجوا غير مصدقين أنهم أحياء، لكنهم أقرب إلى الأموات.. مرضى مهزولون مشوهو الجسد والروح، من بقي منهم على قيد الحياة كأنه يبحث عن قيد ميلاد جديد.
والجلادون من بقايا النازي والجيش الألماني وقادة معسكرات الاعتقال الذين تحولوا إلى فارين مذعورين تلاحقهم حمم براكين الانتقام والغضب الهيستيري والتعطش إلى الدم بلا ارتواء.
فداحة المأساة
ومن منظور الراوي، وشهادات شهود عيان ولقطات حية موازية لشريط الصوت، يستعرض الفيلم ما يمكن أن نسميه تجسدات آثار ما بعد الحرب سياسيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا، لم يتبقَّ أي شيء يصلح لأي شيء؛ الخراب يطول المدن والعمران والبشر والأرواح والأجساد.
ثمة قسائم استحقاق لكل شيء؛ للماء والخبز والدواء. يقول الراوي إن هذه الدرجة من العوز والفاقة والضيق تؤدي بالضرورة إلى النهب والسلب وشيوع الدعارة.
كان السؤال: ما العمل مع ألمانيا المهزومة؟
يمكنك أن ترى تاريخ أوروبا كلها على طرقات ألمانيا شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، من ناحية كان ثمة شعور سائد بالخوف من الألمان المهزومين تجاه الحلفاء، يحدوهم شعور عارم بالرغبة في الانتقام بموازاة مشاعر مضادة من ضحايا الرايخ الثالث وبقايا النازي جراء أعمال السلب والنهب والاغتصاب والتدمير التي مورست بحقهم، وبدا أن النهب مرض مزمن.. يمارسه الجميع ويجب أن يتوقف ذلك.
نعم، في كل مكان جرَّدت الحرب الإنسان من إنسانيته. حاول بعض النازيين الهرب بالاندماج بين ضحاياهم، لكن موجة من التعقبات ستأتي وستطول كثيرين وسيكون الانتقام عنيفًا وبشعًا؛ وبوسائل غاية في الوحشية.
بطاقات رش المبيدات!
في مشاهد أخرى مفعمة بالخزي والعار والأسى والغضب، يعرض الفيلم للحالات الإنسانية التي كانت تنزح بعد الحرب من ألمانيا إلى الدول المجاورة، ولشهادات لاجئين كانوا يُرَشّون بالمبيدات الحشرية؛ لتطهيرهم تحسبًا لإصابتهم بمرض التيفود! يقول أحدهم:
“رشوا المبيدات في سراويلنا في أنوفنا وآذاننا، وكنا نتذوقها”، لم يكن أحد يعبر نهر الراين إلى الضفة الأخرى من دون البطاقة التي تثبت رشه بالمبيد الحشري؛ ضمانًا لسلامته من التيفود!
لم يكن يعرف الناجون من الإبادة كيف سيعودون إلى ديارهم.. جميعهم ضعفاء ومرضى ولم يفهم الحلفاء حجم التعذيب الذي عاشوه.
يكشف الفيلم أنه خلال ستة أسابيع من تحرير معسكر بيرجن بيلسن، توفي 13 ألف مرحّل.
هل انتهى الكابوس؟
شيئًا فشيئًا، سيُظهر الفيلم المحاولات الحثيثة للتغلب على آثار الدمار المهولة، جزئيًّا سيتم إصلاح السكك الحديدية، ثم بدأت عودة القطارات شيئًا فشيئًا إلى كل أنحاء أوروبا.. ثم الفرحة غامرة، الجنود عائدون، تختلط القبلات بالدموع بعدم التصديق بأن الكابوس المفزع المهول قد انتهى أو على وشك الانتهاء، لكن الآثار الاجتماعية ستمتد لسنوات طويلة تالية.
طوال عامَين كامَلين سيستمر طرد الشعوب الناطقة بالألمانية من أوروبا الشرقية تجاه الغرب، يصفها الفيلم بأنها “واحدة من كبرى هجرات اللاجئين في تاريخ أوروبا”؛ 12 مليونًا منهم على الأقل هاجروا/ نزحوا إلى ألمانيا.
في تلك السنوات من 1947 حتى 1950 سيُعاد رسم خريطة أوروبا بالكامل وتُبذر بذور الحرب الباردة العظمى التي سيستعر أوارها حتى تسعينيات القرن العشرين.
جرثومة الحرب الباردة
سيختتم الفيلم في جزئه الثاني ما جرى من مناورات السياسة والساسة بين القوى العظمى التي تبلورت في الأثناء؛ إنها المواجهة التي ستحتدم وبعنف طيلة العقود التالية وسيبدأ صراع آخر بين المعسكرَين الكبيرَين؛ الشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، ليأخذ العالم منحًى آخر.. إنه عالم ما بعد هتلر.
After Hitler Documentary part 1 out of 2
After Hitler Documentary part 2 out of 2