الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون خليجيةشؤون عربيةمقالات

التكامل بين العلوم الشرعية والمنهجية الاجتماعية عند “عبد الوهاب أبو سليمان”

كيوبوست

د. نصر عارف♦

عرفت الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، رحمة الله عليه، من كتابه “منهج البحث في الفقه الإسلامي: خصائصه ونقائصه”، فبهرني تناوله، وإحاطته بالأبعاد الفلسفية للمنهج العلمي، وهو الفقيه الشرعي، الذي تخصص في الفقه وأصوله، وتمرس في علوم اللغة والبلاغة. فكان هذا الكتاب فاتحة للنظر في إسهامات نموذج فريد من علماء الشريعة، نشأ في بيئةٍ علمية تقليدية، ودرس العلوم الشرعية، وعلوم اللغة بمنهج الأقدمين، ولكنه لم يقف عند هذا الحد، ويكتفي بالتحصيل العلمي التقليدي سواء في مدارس مكة، أو في صحبة الفقيه المالكي الكبير الشيخ حسن محمد المشاط لفترة طويلة تتجاوز السنوات السبع، صحبة لا فراق فيها، ولا بعاد، فأخذ عنه العلوم الشرعية خصوصاً الفقه والأصول أخذ مناولة من لسان لأذن؛ بصورة لا تسمح لسوء الفهم أن يتسرب لعقل المتعلم، وتفتح آفاق الاستزادة والتعمق، والتفريع والتشعيب، لأن التعلم بهذه الطريقة لا يقف عن الموضوع؛ ولكنه يمتد ليشمل كامل مساحة المعرفة، وكل جوانب التجربة الشخصية للشيخ وشيوخه وشيوخهم.

اقرأ أيضًا: الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان …وملامح من شخصيته الفقهية

فقد كان الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان منذ بداية رحلته العلمية حريصاً على التعلم والاستزادة بنفس طريقة الأسلاف؛ من خلال صحبة العلماء الذين يأتون إلى مكة المكرمة من مختلف بقاع الأرض، وحين وصل إلى القناعة بأنه استوعب من علوم الشريعة ما يمكنه من خوض بحور الفقه والأصول ذهب إلى لندن في المملكة المتحدة للحصول على الدكتوراه، ودراسة القانون الأنجلوساكسوني، ورجع من هذه الرحلة متمكناً من المنهج العلمي، لأن العلم عند الغربيين منهج وليس مجموعة معلومات، أو نصوص، أو ركام من الأفكار، لذلك كان أهم ما يميز الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، رحمه الله، هو القدرات المنهجية العالية التي مكنته من تقديم اجتهاداتٍ جديدة في مختلف الموضوعات ذات الطبيعة الشرعية أو التي تُعتبر من صميم العلوم الاجتماعية الحديثة.

الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان مع الملك سلمان بن عبد العزيز

وإلى جانب تحقيق المزج والتكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، والإبحار في علوم المسلمين وتراثهم، وعلوم الغربيين وتجاربهم، فقد تميز الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان، رحمه الله، بالإلمام بمختلف مدارس الفقه الإسلامي، فتلقى العلم على يد الشيخ المشاط المالكي، وفي نفس الوقت درس الفقه الحنبلي بعمق، ودرس كذلك الفقه الشافعي، ثم تعمق في الفقه المقارن، وفوق كل ذلك أحاط بمباحث أصول الفقه، والقواعد والأصول التي تجعل الفقيه يتعامل مع القضايا الفقهية بمبضع الجراح المتقن؛ الذي يستطيع أن يميز بين المسائل والمتشابهات، ويتعامل مع الحوادث والنوازل بمنتهى الدقة والاقتدار.

هذه الخلفية العلمية الرصينة التي جمعت بين معارف الشرق والغرب، وبين علوم المسلمين ومدارسهم المتنوعة، جعلت الدكتور عبد الوهاب رحمة الله عليه مجتهداً من طرازٍ خاص، فقد أسهم بتقديم اجتهاداتٍ جديدة تحت مظلة المجمع الدولي للفقه الإسلامي؛ التابع لمنظمة التعاون الإسلامي؛ والذي يتخذ من جدة في المملكة العربية السعودية مقراً له. فكانت له -رحمة الله عليه- أبحاثٌ معمقة في معظم مجالات الاقتصاد الإسلامي والبنوك، وكانت له اجتهادات خصوصاً في المسائل المستحدثة من بطاقات الائتمان وغيرها، وكان له دائماً السبق في معالجة القضايا الجديدة التي تعود أن يقفَ أمامها الفقهاء ذوو التكوين التقليدي لسنين دون أن يصلوا فيها لحل أو رؤية أو تصور، لأنها كانت تُشْكَل عليهم، ويخافون من أن يقدموا فيها ما يجانبه الصواب. أما الدكتور عبد الوهاب، رحمة الله عليه، بحكم تكوينه العقلي، ومنهجيته الدقيقة، فكان قادراً على تصور الظواهر الحادثة، ووضعها في ميزان الشرع الحنيف، وتقديم ما يحقق مصالح العباد والبلاد فيها من فتاوى وأحكام.

غلاف كتاب “منهجية الإمام الشافعي”

ترك الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان للمكتبة العربية علماً نافعاً يكون في ميزان حسناته، رحمه الله رحمة واسعة، فتنوع إسهامه العلمي ليغطي مختلف موضوعات الفقه الكبرى، وكان حريصاً أن يركز على المنهج، لأن العلم يعرف بمنهجه، والعلم هو المنهج، وهذا الذي يميزه رحمة الله عليه بين المتخصصين في الشريعة الإسلامية، ويجعله فريداً متفرداً بينهم. فكتب في “منهج البحث في الفقه الإسلامي: خصائصه ونواقصه”، وكتب في “منهجية الإمام محمد بن ادريس الشافعي”، وفي “منهج البحث في أصول الفقه”، و”ترتيب الموضوعات الفقهية ومناسباته في المذاهب الأربعة”، و”الفكر الأصولي: دراسة تحليلية”.

غلاف كتاب “منهج البحث في الفقه الإسلامي: خصائصه ونواقصه”

ثم انتقل لمعالجة القضايا الجديدة في الفقه الإسلامي بمنهجٍ مقارن يستوعب خلاصات المدارس الفقهية الإسلامية فكان له: “فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة: آفاق وأبعاد”، و”عقد الإجارة مصدر من مصادر التمويل الإسلامية”، و”عقد التملك الزمني: دراسة قانونية فقهية مقابلة”، و”توسعة المسعى عزيمة لا رخصة: دراسة فقهية تاريخية بيئية جيولوجية”.

غلاف كتاب “توسعة المسعى عزيمة لا رخصة: دراسة فقهية تاريخية بيئية جيولوجية”

هذه بعض أهم الكتب التي أسهم بها -رحمة الله عليه- في تحقيق التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية؛ خصوصاً من زاوية تطبيع المنهج في دراسة علوم الشريعة؛ لتمكين الدارسين فيها من التعامل مع القضايا المعاصرة، والمستجدات من الحوادث والنوازل والمعاملات؛ بصورة تحقِّق مقاصد الخالق في الخلق. وإلى جانب ذلك، له العشرات من الأبحاث الفقهية الرصينة التي تجمع بين التمكن من العلوم الاجتماعية؛ والتعمق في العلوم الشرعية، وقد كان لأبحاثه الأثر الكبير في تطوير مؤسسات الإفتاء المعاصرة، لذلك استحق بجدارة جائزة الملك فيصل، وندعو الله له بالجائزة الكبرى في عليين مع الأنبياء والصديقين.

♦أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات