ثقافة ومعرفةشؤون عربيةمجتمع
التسويق المقدس: الإسلامويون بين الدعوي والسياسي
إشكالية محورية تواجه حركات الإسلام السياسي

كيو بوست – رشيد العزوزي
عقدت حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوية لحزب العدالة والتنمية المغربي، مؤتمرها السادس، قبل أيام، تحت شعار “الإصلاح أصالة وتجديد”، في العاصمة الرباط.
وجددت الحركة الثقة في رئيسها عبد الرحيم شيخي، وناقشت الأزمات التي يتخبط بها الحزب، أهمها جدلية الدعوي في علاقته بالسياسي، وهي الإشكالية المحورية التي تخترق بنية ومسارات العمل الإسلامي المعاصر، فكريًا وحركيًا، وتخلف نقاشًا مستفيضًا ليس في المغرب وحده، وإنما في كل أنحاء العالم العربي.
اقرأ أيضًا: اقتصاد الإسلام السياسي: كيف وظف الإسلامويون الدين من أجل المال؟
السياق العام
إن عداء الإسلام السياسي للديمقراطية مؤسس منذ بداياته الأولى، انتصارًا لمفاهيم أيديولوجية، شكلت الركيزة لتلك الحركات، مثل مفاهيم الشورى، وتطبيق الشريعة، وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر.
ويرى سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن” إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية، ولا وسط بين الطرفين، ولا بديل. وبحسب الكتاب: “حكم الله يقوم في الأرض، وشريعة الله تنفذ في حياة الناس، ومنهج الله يقود حياة البشر، أو إنه حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، فأيهما يريدون؟… إنه مفرق الطريق الذي لا معدى عنده من الاختيار، ولا فائدة من المماحكة عنده ولا الجدال: إما إسلام وإما جاهلية، إما إيمان وإما كفر“.
وهذا المنطق القطبي هو مدخل الإخوان للجمع بين الدعوي والسياسي، وبه صاغوا مفهوم “الحاكمية”، وباقي المفاهيم المتمحورة حوله في أدبياتهم واجتهاداتهم وتنظيراتهم، التي تكشف حقيقة توجهاتهم وضبابية مواقفهم.
اقرأ أيضًا: هكذا استغلت جماعات الإسلام السياسي منابر المساجد
لقد عرف الإسلام السياسي مجموعة من التحولات والانعطافات الخطيرة في مساره التاريخي لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، كان لها بالغ الأثر على فكرهم وممارستهم منذ تأسيس الإخوان المسلمين على يد حسن البنا، حتى اصطدام سيد قطب بقومية عبد الناصر التي سببت دخول الأمة العربية في نفق مظلم.
كما تسببت “أيديلوجيته” الأصولية في تفريخ جماعات الجهاد والهجرة، وغيرها من الحركات العنيفة التي سارعت إلى تكفير الدولة والمجتمع، وقالت بالحاكمية التي شكلت مرجعية كبرى لإراقة الدماء، ووجدت -للأسف- ما يسندها في السياسة الشرعية لابن تيمية قديمًا، كما استقوت بتجربة الخميني حديثًا.
إلا أن “الربيع العربي” الذي أوصل أحزابًا إخوانية إلى السلطة عرى هذه المدرسة التي تعادي العالم الطبيعي، وبين محدودية هذا الفكر، كما كشف أن الواقع العربي وحجم تحدياته بحاجة إلى حلول مستعجلة، لا استحضار أجوبة ماضوية لا علاقة لها بواقع اليوم، وهو ما حتم على هذه التنظيمات مراجعة نفسها وأفكارها ومنهجها، بما فيها تلك التي اعتبرت “سرديات كبرى” غير قابلة للنقاش.
اقرأ أيضًا: صحف غربية: هكذا يستغل الإخوان المسلمون المساجد لأغراض حزبية وأيديولوجية
لماذا تربط الحركات الأصولية الدعوي بالسياسي؟
يعود الفضل في النجاح الذي حققته الأحزاب الأصولية مؤخرًا إلى رصيدها الدعوي، لا برامجها السياسية، لأن الأذرع الدعوية خزان انتخابي أثبتت التجربة قدرته على حسم معارك استعصت سياسيًا، وإن كان هذا يحول دون نزاهة العملية الانتخابية، كما تصرح أحزاب أخرى بمرجعيات مغايرة ترى في استغلال المشترك الديني تأميمًا لهذا المقدس، الذي يفترض فيه أن يبقى مشاعًا للجميع دون لبس أو تلبيس أو وصاية.
أكرر ما قلته مما أؤمن به :
فصل السياسي عن الدعوي كفصل الجراحة عن الطب : خياله غير متحقق
وحقه غير متخيل
والله أعلم— د . محمد الجوادي (@GwadyM) May 30, 2017
في هذا السياق، قال الباحث في فكر الإسلام السياسي إدريس جنداري في اتصال مع كيو بوست إن هذا الفعل “لا يعدو أن يكون وهمًا أيديولوجيًا يروج له بمنطق الماركوتينغ السياسي”، ويستطرد موضحًا: “حركات الإسلام السياسي هي تيارات أيديولوجية، مثلها في ذلك مثل باقي التيارات اليسارية والليبرالية والقومية والعرقية والمذهبية… وكنتيجة منطقية، يمكن أن نستخلص، بشكل مباشر، أن هذه الحركات تخدم أجندة سياسية خاصة، وبالتالي فهي لا تمتلك حق أن تكون الناطق الرسمي باسم الإسلام والمسلمين” .
ويضيف جنداري: “هذا البناء المنطقي ضروري للخروج من حالة اللبس التي يمكن للتحليل الأيديولوجي أن يسقطنا فيها. ولعل محاولة استقرائية للتلقي الأيديولوجي السائد، تؤكد أن حالة اللبس هذه هي التي سادت، لعقود، وهذا ما دفع الباحث المتخصص في حركات الإسلام السياسي (فرانسوا بورغا) في كتابه (الإسلام السياسي صوت الجنوب / L’islamisme au Maghreb- la voix du sud) إلى دحض هذه الأطروحة الأيديولوجية التي تربط بين الإسلام كدين وحركات الإسلام السياسي كحركات سياسية”.
اقرأ أيضًا: هكذا يتم استخدام الدين في خدمة الأغراض السياسية
ويخلص جنداري إلى “أن الإسلام مجرد هوية يتسلح بها الإسلام السياسي – هوية تتجاوز العقيدة وتعلو عليها… ضمن هذا السياق المعرفي، يمكن مناقشة العلاقة بين السياسي والدعوي في تصور الإسلام السياسي”.
كيف نفهم تزايد المطالبة بفصل الدعوي عن السياسي؟
سرعة التغيرات في المنطقة والعالم أحرجت خطاب الإسلاميين وتصوّراتهم، ولذلك فقد احتاج دعاتهم إلى تعديل مقولاتهم، ومراجعة مسلّماتهم، لتتحوّل مواقفهم تدريجيًّا نحو قبول الديمقراطيّة، ونقاش مفاهيم العلمانيّة، والانتقال من الكهنوت السياسي إلى التفكير في فلسفة العقد الاجتماعي، لتخرج –شيئًا فشيئًا- من مسارات الرفض والانغلاق، وتتطلع تدريجيًّا نحو الفهم والاعتراف.
من هنا، اعتبرت الديمقراطية كالشورى مع إخوان تونس، وغدا الفقه الإسلامي السياسي نظامًا ديمقراطيًا عند حسن حنفي، كما أصبحت الشورى لا تتميز عن الديمقراطية مع عمارة، في محاولة من الجميع لمد جسور بين الإسلام السياسي والحداثة.
ولم تكن هذه التحولات في واقع الأمر رغبة ذاتية كما يروج الغنوشي وشيخي، وإنما استجابة لقوة التاريخ، ورفعًا لتحديات جمة؛ فمجلس النواب البحريني مثلًا، في 17 مايو/أيار 2016، صادق على قانون الجمعيات السياسية الذي يحظر الجمع بين العمل السياسي والديني، ومنع المنابر الدينية من ترويج الأفكار السياسية، وشمل حظر الممارسة السياسية للمشتغلين بالوعظ والإرشاد والخطابة، ولو من دون أجر.
بينما منع قانون تأسيس الأحزاب السياسية في المغرب تأسيس أي حزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، وعليه فالهاجس القانوني كان من بين الأسباب الرئيسة في هذا المخاض الفكري الذي يعيشه الإخوان، ولم يكن نقدًا ذاتيًا بقدر ما كان ملائمة قانونية أولًا، وتعبيرًا عن أزمة حقيقية في العلاقة بالقواعد، وتيه سببه بؤس التجربة وتداعيات ذلك إقليميًا ودوليًا.
اقرأ أيضًا: كيف استنسخت حركات الإسلام السياسي نظرية المؤامرة النازية؟
يمكن القول بأن النقد الذاتي هو “الفريضة الغائبة” عن الإسلام السياسي، لأن الأطر المعرفية المنتجة لخطابهم “ربانية” في تصورهم، متعالية عن الواقع، وقادرة على تقديم حلول سحرية لكل البشر، وهو ما ينسجم وشعار “الإسلام هو الحل”، إلا إذا استثنينا المفكر الناقد فريد الأنصاري في كتابه: “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي”، الذي بين فيه أن هدف الحركات الإسلامية أولًا وأخيرًا “السلطان”، أي السياسة قبل “القرآن”، والدعوة و”الدولة” قبل “الدين”، ما جر عليه انتقادات كثيرة جارحة، لأنها لم تتعود، إلا على التصفيق والمديح والرمي بالورد.
نقد هذا الكتاب ونقض ادعاءات الإسلاميين، سواء من أصحاب الاختيار السياسي الذي يصفه البعض بالاعتدال، أو ذلك الذي يتبنى اختيارات سياسية جهادية عنيفة إرهابية، إذ بين الأخطاء التي دفعتهم إلى الانحراف عن الصراط “الدعوي”، كونه هو الغاية الأساسية التي ينبغي أن ينصرف إليها جهدهم.
كما عدد فريد الأنصاري المنزلقات التي سقط فيها الإسلاميون في كتابه “الأخطاء الستة للحركات الإسلامية” (2007)، بلغة مباشرة وبغلاف بليغ يمكن قراءته سيميائيًا على أنه قدحي جدًا؛ لون أحمر به عقرب أخضر، في إشارة للحركة الإسلامية التي يعتبرها ماكرة وخداعة ويدعوها للتوبة، كأنه استشرف حالها بعد 2011، لأن الموت لم يمهله ليرى نبوءاته تتحقق.
وقف العارف بخبايا العمل الحركي على “الأخطاء الكبرى”، التي وقعت فيها الحركة الإسلامية، معددًا إياها في ستة، تدور حول محور ‘الاستصنام”، على حد تعبيره، أي أن الحركة الإسلامية اتخذت أصنامًا تعبدها من دون الله، وباتت تعاني من هذا المرض العضال. وتحدث الأنصاري في كتابه عن استصنام الخيار الحزبي، واستصنام الخيار النقابي، واستصنام الشخصانية المزاجية، واستصنام التنظيم الميكانيكي، ناهيك عن استصنام العقلية المطيعة، وأخيرًا استصنام المذهبية الحنبلية في التيار السلفي، وهو ما جر عليه الكثير من النقد الجارح.
يتضح من كل ذلك أن حجم الهفوات في الإسلام السياسي، فكرًا وممارسة، لا تكاد تنتهي حتى تبدأ، وبالتالي فمن الصعب أن تخرج تلك الحركات من أزمتها -التي لم يعد ينكرها موال أو معارض- إلا بشجاعة قوية تصل حد القطيعة الإبستمولوجية، مع ماضيها وسردياتها التي أصبحت ثقلًا عليها قبل غيرها، والبداية من جديد بأسس متينة، واضحة، تقدمية، لا تستغل المقدس، ولا تتصيد الفرص.