الواجهة الرئيسيةشؤون عربية
البصرة.. فينيسيا الجنوب التي حوَّلها الفساد إلى مدينة أشباح

كيوبوست – ترجمات
على جانب الطريق، كانت دماء سجاد محمد، 13 عامًا، الذي قُتل في اليوم السابق لمرورنا، مغطاة بالرمال. وفي منتصف هذا الطريق المؤدي إلى ميناء أم قصر، على بُعد 70 كم من البصرة جنوب العراق، يصرخ مئات الشباب حول المكان بغضب، يقول علي، 18 عامًا: “كان لدينا ما مجموعه ثلاثة شهداء و70 جريحًا”.
يرتدي علي خوذة، وفي يده عصا، بينما تفصل بينه وبين قوات الأمن العراقية 50 مترًا فقط، ويضيف: “نحن هنا للانتقام لدماء شهدائنا، نريد إغلاق الطريق إلى الميناء”.
بالقرب من الحدود مع الكويت، يعتبر “أم قصر” ميناء الاستيراد الوحيد للعراق.. هنا كما هي الحال في البصرة، يحرق المحتجون الإطارات لإغلاق الطرق المؤدية إلى الميناء وآبار النفط، لكنهم لا يستطيعون تعطيل الوصول إلى حقول النفط.
في نهاية شهر أكتوبر الماضي، تمكن هؤلاء الشباب الغاضبون من إغلاق ميناء أم قصر لمدة أسبوعَين؛ لكن هذا الحصار أثار عدة انتقادات.. كما يقول الشيخ مزاحمي التميمي، النائب عن مدينة البصرة: “هذا ليس حلًّا جيدًا، فهو يضر بالاقتصاد المحلي”.
لكن ما أثار استياء التميمي أكثر كان تلك الحملة التي تشنها الشرطة ضد عشرات الآلاف من المتظاهرين العزَّل؛ ما دفعه إلى تقديم استقالته من البرلمان.

فينسيا الجنوب
ترمز البصرة، أكبر مدن جنوب العراق، والتي يبلغ عدد سكانها 4.5 مليون نسمة، إلى الفشل الساحق لهذا البلد بعد سقوط صدام حسين.
اقرأ أيضًا: تظاهرات العراق.. ساحات حرب على الفساد والتبعية الإيرانية
هنا إخفاق غير مفهوم؛ حيث تزود محافظة البصرة العراق بـ90٪ من صادرات النفط؛ كل يوم تنتج المحافظة أكثر من 3.5 مليون برميل، بمعدل 50 دولارًا للبرميل، وهذا يعني كثيرًا من المال.
كان يطلق على البصرة يومًا اسم “فينيسيا الجنوب”، وكان الكويتيون الأثرياء يقصدونها عند نهاية كل أسبوع؛ لقضاء سهراتهم الخاصة، حيث كانت البصرة إحدى المدن الضخمة في العالم الثالث.
اليوم تكتظ شوارعها بالقمامة القذرة، وتصب المجاري في القنوات المفتوحة، كما تلوثت المياه؛ لدرجة أن 120000 شخص دخلوا المستشفى في صيف عام 2018، وهي أزمة أدَّت إلى اندلاع احتجاجات ضخمة في المدينة، العام الماضي.
في حين أن البصرة كان لديها كل ما يحتاج إليه ازدهار “العراق الجديد” بقيادة طبقة سياسية من المعارضين الذين روَّج لهم “المحررون الأمريكيون”، إلا أن الفساد مستوطن، والبطالة على أعلى مستوى، والميليشيات الشيعية الموالية لإيران تسيطر على الوضع بالكامل. يقول أحد التجار الذين يشعرون بالاشمئزاز من الوضع: “يجب على الشركة الأجنبية أن تدفع 20 ألف دولار إذا أرادت أن تنافس على عقد في مناقصة نفطية، دون الحصول على أي ضمان للفوز بهذا العقد”.
يتحدث هذا التاجر أيضًا عن الهدايا الباهظة التي يحصل عليها قادة الميليشيات، “10000 دولار مثلًا كمصروف جيب؛ لقضاء ثلاثة أيام في عمان أو بيروت”، مضيفًا: “هناك مسؤولون يعيشون في المزارع التي تخضع لحراسة مشددة، ولديهم عشرات الملايين من الدولارات مخبأة نقدًا”.
كل ميليشيا تسيطر على رصيف في ميناء أم قصر، كما يقول أحد الطلاب المتظاهرين: “هناك واحد للعصائب، وآخر لكتاب الشهداء، وثالث ورابع لسرايا السلام، وفيلق بدر وخراسان”.
“الميناء ليس للشعب، إنه للميليشيات والأحزاب التي تعيد توزيع جزء من دخله على الحكومة، هي رهائن لها”، يضيف هذا الطالب الشاب: “لكن هدفنا ليس شل الاقتصاد، بل منع ناقلات النفط التابعة للميليشيات من المرور على الطريق”.
بعد الاحتجاجات التي وقعت العام الماضي والتي قُتل فيها نحو 20 شابًّا وأُحرقت خلالها القنصلية الإيرانية في البصرة، لم يتم الوفاء بوعود الحكومة بتوفير فرص العمل. “لا شيء قد تغيَّر، لم يكن لدينا حتى كميات إضافية من الكهرباء”، كما يقول أيمن، أحد الموظفين الذين يأتون كل صباح لدعم مئات من طلاب المدارس الثانوية الشباب في تظاهرات محافظة البصرة.

العشائر متورطون
لا يهتم الشباب بماضٍ قمعي لا يعرفون عنه شيئًا، هم يقاتلون من أجل إصلاح شامل للعراق؛ خصوصًا نهاية الطائفية والنظام البرلماني.. يقول الشاعر لؤي حمزة عباس: “صحيح أن مطالبهم قد تبدو متطرفة”؛ لكنَّ هناك فئتَين من الناس لا يمكننا الاعتماد عليهما بعد الآن، زعماء العشائر ورجال الدين، إنهم أكثر مَن استفادوا من إضعاف الدولة منذ عام 2003.
هؤلاء الشباب لا يحاربون الأحزاب الدينية فقط؛ بل حتى الزعماء العشائريين، لقد قاموا مؤخرًا بحرق المضيف، وهو المنزل التقليدي لرئيس الشؤون العشائرية في مدينة الناصرية شمالًا؛ حيث كانت الحملة الأكثر دموية، والسبب كما يقولون لأنه لبَّى دعوة للقاء رئيس الوزراء؛ لكن الشيخ حسين الخيون رفض الدعوة.
شاهد..فيديوغراف.. فرحة كبيرة لدى المتظاهرين العراقيين بسبب استقالة رئيس الوزراء
في ديوانه على بعد نحو ثلاثين ميلًا من الناصرية، كان أفراد من عشيرته ينتظرون الاستماع إليه في ذلك المساء، قال الشيخ: “لقد حاولت الحكومة أن تشتريني؛ لكنني قاومت، أريد أن أبقى مع الناس”.
بعد ذلك أصدرت الحكومة أمر اعتقال بحقه، ويضيف الشيخ: “اتصل بي أحدهم ليخبرني أنه إذا لم أؤيد المظاهرات، فستلغي شعبة الاستخبارات العسكرية العقوبة.. تتعرض العشائر لضغوط، وتقدم الحكومة لهم المال مقابل سحب دعمهم؛ لكن بعض الناس خائفون، خصوصًا أولئك الذين لديهم ملفات استخباراتية”، كما يقول الخيون.
المصدر : لوفيجارو