الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
البريد.. خدمة سايرت الإنسان منذ أقدم الحضارات

كيوبوست
قد يوحي توافر وسائل الاتصال الحديثة ومنصات السوشيال ميديا، وما تقدمه من خواص للتواصل بسهولة وسرعة عن بُعد، أن البريد التقليدي عفَّى عليه الزمن! إلا أن الحقيقة تختلف؛ فما زالت أكثر من 150 دولة تحتفل سنوياً باليوم العالمي للبريد، لزيادة الوعي بدور القطاع البريدي في الحياة اليومية، وأهميته للأفراد وقطاع الأعمال…
وخلال مؤتمر الاتحاد البريدي العالمي، الذي عُقد في العاصمة اليابانية طوكيو عام 1969م، اعتمد تاريخ 9 أكتوبر يوماً عالمياً للبريد؛ كونه تاريخ الذكرى السنوية لتأسيس الاتحاد البريدي العالمي في عام 1874م في العاصمة السويسرية “برن”.
والنظام البريدي هو خدمة تتيح إيصال المواد إلى وجهتها؛ سواء أكانت رسائل مكتوبة أم وثائق أم طروداً.
بريد العالم القديم
كانت الحاجة ملحة إلى بناء نظام اتصال واسع في العالم القديم؛ لضمان إحكام سيطرة الإمبراطوريات القديمة على أراضيها المترامية، لذلك تم استحداث أقدم نظام بريدي في مصر الفرعونية نحو 2000 قبل الميلاد، تلتها الصين بعد 1000 سنة؛ حيث تم استخدام نظام المراسلات خلال فترة حكم سلالة “تشو”، في حين اعتمدت الإمبراطورية الأخمينية في إيران، خلال القرن السادس قبل الميلاد، الخيَّالة المنتشرين على طرق الإمبراطورية لإيصال الرسائل، والذين كانوا بمثابة “سعاة البريد” في العصور التالية.

وعلى نهج البريد الفارسي، طوَّر الرومان النظام البريدي الأكثر تطوراً في العالم القديم، وسُمي بـ”الكورسوس بوبليكوس cursus publicus”، ما معناه “الطريق العام”؛ إذ وضعت الإمبراطورية على عاتق الأفراد الموجودين على الطريق العام إيصال الرسائل عبر تسليمها من فرد إلى فرد حتى تصل إلى وجهتها المحددة، الأمر الذي جعل عملية الوصول هي الأسرع في أوروبا حتى القرن التاسع عشر.
من جهتها، كانت توفر الدولة الخدمات المطلوبة على الطرقات، كأطباء البيطرة من أجل علاج الحيوانات الجارّة للعربات في حال مرضت، ومصلحي العربات، إلى جانب نظام تفتيش للسيطرة على عملية النقل، ومنع إساءة استخدامه لأغراض خاصة.
اقرأ أيضاً: الراديو.. رحلة قرن وأكثر
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، ورثت الإمبراطورية البيزنطية النظام البريدي ذاته، والذي بقي معتمداً من قِبل الجماعات التي تعاقبت على حكم المنطقة من البرابرة الغزاة، وبقي النظام يعمل حتى أوائل القرن التاسع، لكن مع استمرار تدهور الطرق الرومانية، وعدم رغبة المجتمعات المتاخمة للطرق في دعم النظام، والتجزئة السياسية التدريجية لأوروبا، وضعف النظام البريدي الروماني.
بريد الدولة الإسلامية
يبدو أن نظام البريد المتكامل كان مرتبطاً دائماً بالدول القوية، فبهدف إحكام السيطرة على الدولة الإسلامية التي كانت آخذة في التوسع، وبحلول منتصف القرن التاسع، جرى تشكيل نظام بريدي يتألف من شبكة طرق ومحطات ورؤساء أفرع ومدير عام، وكان يموَّل من قِبل الخليفة، وعند وصول المسلمين إلى أوروبا، تم دمج النظام البريدي الروماني المتهالك بنظام عربي مقره بغداد.
ولم تقتصر المواد المتداولة عبر البريد على المراسلات، إنما شملت السلع؛ كالحيوانات والفواكه الغريبة والجليد حتى، ونظراً لأن المراسلات التي يتم نقلها غالباً ما تتضمن تقارير سرية، تطور النظام إلى شبكات تجسس تابعة للسلطة المركزية. ومع ذلك، واصل البريد الإسلامي تطوره على مدار الجماعات التي حكمت الدولة الإسلامية.

وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة الإسلامية تعيش مرحلتها الذهبية، كانت أوروبا تذهب باتجاه سنين طويلة من التدهور، حينها لم تسمح الظروف العامة بتشكيل نظام بريدي متماسك، بينما اقتصر الأمر على الاستعانة بمجموعة من السعاة لتصريف أمور الملوك؛ لكن توسع التجارة الدولية أدى إلى ظهور الحاجة لبناء نظام بريدي، لذا أقدمت العديد من الشركات على اعتماد أنظمة مراسلات مكونة من أعضاء يسافرون فيحملون الرسائل والطرود.
ومنذ منتصف القرن الثالث عشر قدَّم نظام البريد في إيطاليا، الذي كان الأكثر فاعلية، آنذاك، خدمات بين المراكز التجارية الإيطالية الكبرى ودول أوروبا وخارجها؛ كنقل الرسائل والعمولات وتنفيذ التسويات، كما تكفل بإصلاح الطرق، وصيانة النزل على طولها. ومن جانبها عيَّنت روسيا في القرن الثالث عشر سائقين بخيول ينقلون السعاة في مواقع انطلاق معتمدة.
اقرأ أيضاً: ويليس كارير.. المنقذ من حر الصيف
ما بعد العصور الوسطى
شهد البريد نقلة مهمة؛ ففي أواخر العصور الوسطى، شملت الأنظمة البريدية في بعض الدول الأوروبية الأفراد؛ أي خرجت من نطاق خدمة الملوك والمتنفذين فقط، ومع ذلك بقي استخدام البريد من قِبل الأفراد محدوداً؛ لأن الرسوم كانت مكلفة.
كما شهد البريد نقلة أهم؛ ألا وهي أن قطاع البريد أصبح مربحاً، ما شجع شركات تعود إلى عائلات أوروبية ثرية، لتطوير شبكات بريدية؛ منها ما شمل عشرات الآلاف من السعاة، وبعد أن أصبحت الخدمة متاحة لعامة الشعب، بادرت الأنظمة الحاكمة لتطوير خدمة بريد مجهزة بمئات السعاة، وتم تقنين حمل البريد الخاص نحو عام 1600م، بينما كان 1627م العام الذي تشكَّلت خلاله خدمة بريدية عامة معتمدة؛ إذ جرى إنشاء مكاتب في المدن الأوروبية الكبرى وتحديد رسوم ثابتة وتعيين جداول زمنية لعمل الخدمة، إلا أن العائلات الحاكمة استشعرت الأهمية المتزايدة للبريد؛ ما قاد إلى احتكاره من قِبل الدولة.

في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حققت خدمة البريد تقدماً ملحوظاً؛ إذ استفادت من تطور وسائل النقل، ما أدى إلى تسريعها، كما طرأ عليها مستجد جعل العملية أكثر انتظاماً؛ طابع البريد الذي يلصق على أغلفة وظروف الرسائل والطرود كإشارة تبين أن أجرة البريد مدفوعة مسبقاً، ويعود فضل ابتكار الطابع البريدي إلى مدرس ومخترع بريطاني، السير رولاند هيل (1795- 1879).
توسع نطاق البريد ليصبح عالمياً، يربط عواصم الدول بعضها ببعض، كما واكب تطور وسائل النقل؛ إذ أصبح جوياً وبحرياً، وفي أواخر القرن العشرين تغيَّرت صيغة البريد، فقد أصبح إلكترونياً بعد تطوير الحواسيب وخدمة الإنترنت. وعلى الرغم من ذلك؛ فلا يزال البريد بصيغته التقليدية متاحاً ويُستخدم في نقل المعاملات والوثائق والطرود.