الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
الانتهاكات التركية لمقررات مؤتمر برلين

كيوبوست
لم تمضِ بضعة أيام على الهدنة التي أرساها مؤتمر برلين في 19 يناير 2020، إلا وتعددت المؤشرات على تجاهل أنقرة الالتزام بها؛ خصوصًا مع مواصلتها نقل العناصر الإرهابية من سوريا للقتال إلى جانب ميليشيات حكومة الوفاق في طرابلس، وَفق ما أكده المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي أحمد المسماري، في 25 يناير الجاري؛ إذ أكد أن جهود تركيا في نقل الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا قد تسارعت[1].
انتهاك تركي متواصل
عمدت أنقرة إلى اتباع سياسات في أعقاب مؤتمر برلين، تهدف إلى تقويض مقرراته؛ وهو ما يتضح في التالي:
اقرأ أيضًا: مخاطر التطرف جَرَّاء التدخل التركي في ليبيا
1-تبنِّي سياسات مزدوجة: أعلنت أنقرة، علنًا، التزامها بمقررات مؤتمر برلين؛ خصوصًا في ما يتعلق بوقف إرسال أسلحة وعناصر إرهابية إلى طرابلس، فقد أكد الرئيس التركي، خلال لقائه الرئيس الجزائري في 26 يناير الجاري، أنه “أجرى اتصالات مكثفة مع دول المنطقة والفاعلين الدوليين؛ من أجل ضمان استمرار وقف إطلاق النار والسماح بعودة الحوار السياسي”[2]. ثم اتبع سياسة مغايرة على أرض الواقع؛ حيث واصلت أنقرة إرسال أسلحة متقدمة ومركبات ومقاتلين إلى ميليشيات “الوفاق” في طرابلس، وَفقًا لما ذكرته بعثة الأمم للدعم في ليبيا في 25 يناير الجاري[3]، فضلًا عن اتهام الجيش الوطني الليبي بخرق الهدنة.

2-ابتزاز أوروبا: اتجه أردوغان إلى تبنِّي سياسته المفضلة ممثلةً في توظيف ورقتَي الإرهاب واللاجئين؛ لابتزاز الدول الأوروبية، إذ أكد خلال لقائه الرئيس الجزائري أنه “لا يجب أن نسمح بتحول ليبيا إلى مرتع للمنظمات الإرهابية وبارونات الحرب”، وذلك على الرغم من تورط أنقرة صراحةً في نقل العناصر الإرهابية من سوريا إلى ليبيا. ومن ثَمَّ، فإن أردوغان يسعى لابتزاز الدول الأوروبية والضغط عليها؛ من أجل القبول بأنقرة كلاعب أمني في ليبيا، يقوم بضبط تحركات التنظيمات الإرهابية؛ حتى لا تضر بالأمن الأوروبي، في مقابل السماح له بالاحتفاظ بنفوذ إقليمي له هناك.
3-التعويل على “المرتزقة”: على الرغم من الدعم التركي لميليشيات “الوفاق”؛ فإن الجيش الوطني الليبي لا يزال يحكم السيطرة على أغلب الأراضي الليبية، بما في ذلك أهم حقول النفط والغاز، كما أن الجيش الوطني يعد أكثر تنظيمًا وتدريبًا وحجمًا من تحالف ميليشيات “الوفاق”، ولذلك؛ فإن الدعم التركي لم ينجح، حتى الآن، في تحويل موقف ميليشيات “الوفاق” من الدفاع إلى الهجوم، وإن أسهم في إبطاء وتيرة تقدم الجيش في طرابلس.
اقرأ أيضًا: قمة برلين ومسار التسوية السلمية في ليبيا
ونظرًا لإدراك تركيا حتمية انتصار حفتر في طرابلس، إذا ما استمر حصاره لها، عمد أردوغان إلى إرسال مزيد من العناصر الإرهابية، كما أنه من المتوقع أن يوعز إلى هذه الميليشيات بتصعيد العمليات العسكرية ضد الجيش الوطني؛ نظرًا لأن أردوغان يدرك جيدًا أن أية تسوية سياسية في ليبيا، مع الاختلال الرهيب في موازين القوى بين حكومة الوفاق والجيش الوطني الليبي لصالح الأخير، سوف تعني تراجع دور حكومة الوفاق والميليشيات المرتبطة بها في أية تسوية سياسية مستقبلية، بما يهدد نفوذه ومصالحه الاقتصادية في ليبيا.
وعلى الرغم من اعتماد أنقرة على التنظيمات الإرهابية؛ فإنه من الملاحظ أن بعض هذه العناصر تحارب لأسباب مادية، وليست أيديولوجية؛ إذ كشف بعض التقارير الإعلامية الغربية التي أجرت لقاءات مع المقاتلين السوريين عن أنهم يقاتلون من أجل المال، إذ إن المقاتل الواحد منهم في سوريا يأخذ مئة دولار شهريًّا، في حين أنه عرض عليهم رواتب تصل إلى 2000 دولار إذا انتقلوا إلى الحرب في ليبيا[4]؛ وهو ما أغرى كثيرين منهم للانتقال إلى ليبيا للقتال هناك.

4-محاولة التأثير على الحكومة الجزائرية: قام أردوغان بزيارة إلى الجزائر يوم 26 يناير 2020. وتعد هذه هي الزيارة الثانية له خلال شهر واحد؛ حيث يبدو أنه يحاول إقناع الحكومة الجزائرية بالموافقة على إرسال العناصر الإرهابية والأسلحة من خلال الأراضي الجزائرية، وهو ما رفضته الأخيرة. وعلى الرغم من أن الرئاسة التركية ذكرت، في بيان، أن زيارة أردوغان إلى الجزائر تهدف إلى “توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدَين، وتشكيل مجلس تعاون تركي- جزائري”؛ فإنه من الواضح أن الملف الليبي كان على جدول المحادثات بين الجانبَين، خصوصًا أن أردوغان خصَّص جزءًا كبيرًا من تصريحاته للإشارة إلى الأزمة الليبية، فضلًا عن طبيعة الوفد المصاحب له، الذي ضم وزير الدفاع خلوصي أكار، ورئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، والمسؤول عن التواصل مع التنظيمات الإرهابية في المنطقة.
ومن غير المتوقع أن تتجاوب الجزائر مع طرح أردوغان؛ خصوصًا أن نقل الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا سوف يغذِّي التيارات الإرهابية المنتسبة إلى “القاعدة” و”داعش”، سواء في داخل ليبيا أو في منطقة الساحل والصحراء، بما يفرضه ذلك من تهديدات على الأمن الجزائري، والذي شهد في ما سبق هجومًا إرهابيًّا على منشأة عين إمناس النفطية في عام 2013 من قِبَل تنظيم “الموقعين بالدماء” الموالي لـ”القاعدة”.
اقرأ أيضًا: تصريحات أردوغان الاستفزازية قد تؤثر على نتائج مؤتمر برلين
تحركات الجيش الوطني المضادة
تبنَّى الجيش الوطني الليبي عددًا من السياسات، والتي سعى من خلالها للرد على مواصلة أنقرة دعمها حكومة الوفاق، والتي تتمثل في التالي:
1-استهداف المطارات: قام الجيش الوطني الليبي باستهداف مطار معيتيقة في أكثر من مرة، والذي تستخدمه أنقرة لنقل الأسلحة العسكرية من خلاله، فضلًا عن توظيفه كقاعدة عسكرية؛ من أجل إطلاق الطائرات المسيّرة العسكرية منه[5]، وذلك لوقف تدفق المقاتلين على ليبيا؛ حيث أكد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، أن أنقرة تخطط لنقل نحو 8 آلاف إرهابي من الجماعات الإرهابية في سوريا؛ خصوصًا جبهة النصرة. ولعل ما يضفي مصداقية على تصريحات المسماري هو نجاح الجيش السوري في تحقيق تقدم على جبهتَي حلب وإدلب[6]، بعد أن ظلتا هادئتَين على مدى الشهور الماضية.

2-تأمين سرت: قام الجيش الوطني الليبي بتحريك قواته باتجاه مدينة مصراتة المتحالفة مع حكومة الوفاق؛ حيث تركز القتال بين الجيش وميليشيات مصراتة عند بلدة أبوقرين الواقعة على بعد 120 كيلومترًا شرق مصراتة[7]. وهدفت تحركات الجيش الوطني ليس إلى دخول المدينة، ولكن إلى إجهاض تحركات بعض ميليشيات مصراتة؛ لمحاولة استعادة سرت، ومن ثَمَّ تأمين المدينة من أية هجمات من مصراتة.
3-مواصلة تطويق طرابلس: يستمر الجيش الوطني الليبي في تعزيز مواقعه حول العاصمة الليبية طرابلس؛ من أجل مواصلة الضغط على ميليشيات “الوفاق”، والتأثير على معنوياتها سلبًا، فضلًا عن إضعافها، وإقناع بعض الميليشيات المسلحة، غير المتورطة في أعمال إرهابية، بالانشقاق عن حكومة الوفاق، والانضمام إلى الجيش الوطني الليبي، ومن ثَمَّ تقليل المعاناة على عاتق الليبيين في طرابلس[8].
اقرأ أيضًا: وثائق مسربة: علاقات وثيقة بين أردوغان وتنظيم القاعدة في ليبيا منذ 2012
ولعل ما يؤشر على نجاح هذه الاستراتيجية هو تصريح عاطف برقيق، أحد قيادات ميليشيا “كتيبة ثوار طرابلس”، التي تقاتل ضمن ميليشيات “الوفاق”، بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بدلًا من أن يرسل جنوده للقتال في معركة طرابلس، اكتفى بمدِّهم بمقاتلين من عناصر المرتزقة، معبرًا عن مخاوفه من وجود “لعبة تُحاك ضد قوات (الوفاق)”؛ وهو ما يكشف عن تراجع معنويات الميليشيات المنضوية تحت “الوفاق” وافتقادها الثقة في تركيا، الحليف الرئيسي والوحيد لها[9].
4-تجفيف مصادر تمويل “الوفاق”: أوقف الجيش الوطني الليبي عمليات استخراج النفط وتصديره عبر أربعة موانئ حيوية؛ وذلك بهدف منع حكومة الوفاق الوطني من استخدام عائدات النفط في تمويل الجهود التركية الرامية إلى إرسال مرتزقة لمساندة “الوفاق”. ومن المتوقع أن يسعى الجيش الليبي والبرلمان الشرعي للضغط على المجتمع الدولي؛ من أجل السماح له ببيع النفط الليبي وتحصيل إيراداته، عوضًا عن حصول حكومة الوفاق عليها.

وفي الختام، يتضح من العرض السابق أن الخيارات التركية في ليبيا تنحصر في إرسال عناصر إرهابية من سوريا إلى ليبيا؛ في محاولة لتعزيز موقف حكومة الوفاق، والتي بات بقاؤها مرتهنًا بالدعم التركي، والعناصر الإرهابية التي تواصل إرسالها، وتسعى أنقرة لتوظيف هذه الميليشيات السورية لضمان اليد العُليا على ميليشيات طرابلس؛ خصوصًا إذا ما أقدم بعضها على الانشقاق عن حكومة الوفاق والانضمام إلى الجيش الوطني، ويبقى الوضع الأمني في طرابلس هشًّا وينذر بإمكانية تجدد الاشتباكات في أي وقت.
المراجع:
[8] https://www.strategypage.com/qnd/libya/20200127.aspx