الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةمقالات
الانتخابات البريطانية.. أوهام النخبة وفشل حزب العمال يحسمان معركة البريكست

كيوبوست
كايل أورتون
ربما يمثل انتصار بوريس جونسون الساحق عن حزب المحافظين في الانتخابات البريطانية الأخيرة، على نظيره جيريمي كوربين زعيم حزب العمال، بداية النهاية لثلاثة أعوام من الاضطراب في بريطانيا.
كانت تلك الأزمة قد بدأت مع الاستفتاء الشعبي الذي أجري عام 2016؛ حيث صوَّت البريطانيون لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من الوعود المسبقة التي قطعها البرلمان الإنجليزي على نفسه بتنفيذ نتيجة الاستفتاء، أيًّا كانت؛ فإن الغالبية العظمى في البرلمان كانت تميل إلى إبقاء بريطانيا في أحضان الاتحاد الأوروبي، وهو ما قاد إلى تضارب بين السلطات؛ تلك التي يمتلك كل منها حق التحدث بصلاحية الشرعية الانتخابية، وهو ما أدخل البلاد تحت وطأة أزمة دستورية.
اقرأ أيضًا: هل تقف بريطانيا أمام تكلفة باهظة بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي؟
وأسفر هذا الاستفتاء المعروف بــ”البريكست” عن تحدٍّ واضح لوجهة نظر النخبة الإنجليزية؛ تلك التي عارضت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أما خارج أسوار البرلمان فقد كان الأمر مختلفًا؛ فهناك نخبة تمتلك نفوذًا إداريًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا قويًّا، تعمدت تجاهل الوجوه الأكاديمية والفنية التي كان من المفترض لها أن تساعد على حل الأزمة. لقد حاول هؤلاء بصحبة أحد النشطاء القضائيين المهمين الحول دون تنفيذ الاتفاق؛ لكن على ما يبدو أن تلك المحاولات لم تؤتِ ثمارها قط.
مسارات الاستفتاء
من جانب آخر، هناك كثيرون من ذوي النفوذ وعظيمي التأثير في بريطانيا الذين اعتقدوا أن بلادهم لن تخرج أبدًا من الاتحاد الأوروبي؛ وهو الأمر الذي ظلوا يبشرون به حتى حلول مساء الجمعة الماضي. فقد استبعدوا تمامًا أن يتم الإبقاء على نتيجة الاستفتاء، بينما لجأ بعضهم إلى وصف رغبة الجماهير باعتبارها مجرد رأي استشاري، بينما لجأ البعض الآخر إلى توجيه أصابع الاتهام إلى روسيا على اعتبار أن التدخلات الروسية نجحت في تغيير مسار الاستفتاء.

وهكذا سارت الأمور على هذا النحو مع النخبة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد امتدت المطالبات إلى المناداة بإعادة الاستفتاء مرة أخرى وجرّ الجماهير من جديد للوقوف أمام صناديق الاقتراع، الأمر الذي شكك فيه الرأي العام، فما الذي يضمن لهم أن النخبة لن تعيد نفس الكرَّة؟ وبالتالي سيواجهون برفض نتيجة الاستفتاء الجديد. بالضبط، كما حدث في السابق.
وقد حاول كوربين حل الخلاف الذي تسبب فيه “البريكسيت”، ذلك عندما أعلن عن نيته في التوسط لإجراء مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، ومن ثَمَّ الدعوة إلى إقامة استفتاء جديد بناءً على تلك المفاوضات. ومما يثير الدهشة أن كوربين نفسه رفض الإعلان عما إذا كان سيصوت لصالح برنامجه الخاص من عدمه، كما أن أنصار حزب العمال في الشمال والوسط الإنجليزي لم تجد محاولاتهم للترويج لهذا المقترح هناك أي صدى، بينما شكك الناخبون البريطانيون في خطة كوربين، فاعتبروها إما غير متسقة ومتنافرة وإما أنها لا تعدو مجرد محاولة التفاف من كوربين على تنفيذ خطة الخروج؛ وهو الأمر الذي دعاهم إلى التصويت بكثافة لصالح حزب المحافظين، وبالنسبة إلى أولئك الذين لم يكونوا ليفضلوا التصويت للمحافظين بسبب انتماءاتهم الحزبية فقد صوتوا لصالح الحزب المناصر لـ”البريكسيت”، وكلا الطريقَين قاد إلى الأمر نفسه، وهو خسارة حزب العمال كمية وافرة من الأصوات الانتخابية.
هزيمة حزب العمال
لابد أن هنالك أسبابًا رئيسية أخرى قد ألحقت تلك الهزيمة بحزب العمال؛ من بينها زعيم الحزب نفسه الذي لم تحظَ قدراته بثقة كثيرين؛ حتى من بين أولئك الذين أعجبوا ببرنامجه الانتخابي. وبشكل أو بآخر، فقد شككوا في قدرته على تنفيذ هذا البرنامج على أرض الواقع. وبالنسبة إلى كثيرين كذلك، كان كوربين يمثل ما هو أسوأ؛ حيث خيمت على الأجواء حالة من انعدام التعاطف مع حزب العمال تحت قيادة كوربين، بسبب مساندته بعض المجموعات التي وصفت بالإرهاب؛ منها الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، وحركة حماس، وحزب الله اللبناني.

لقد خسر حزب العمال كثيرًا بتعاقده للعمل مع الصحافة التليفزيونية التابعة للحكومة الأيرلندية، كما لم ينسَ الناس عمله السابق كمخبر للشرطة التشيكية السرية. وبينما لم يكن الناس يقبضون بين أيديهم على اتهمامات محددة ومبرهن عليها بشكل قاطع، إلا أنهم كونوا في مخيلاتهم صورة عامة عن الرجل الذي يكره بلاده ويهدد أمنها القومي، وحتى إذا فات على ليبراليي المدن في بريطانيا وعوده السابقة بالسعي لتوفير تعليم جامعي مجاني، إلا أن الطبقة الإنجليزية العاملة لم تنسَ ذلك.
اقرأ أيضًا: بريطانيا تفقد سيطرتها وهي تحاول
وحتى في حال استقالة كوربين، فإن ذلك لا يعني أن قيادة حزب العمال التي تقف عند أقصى اليسار قد تعلمت الدرس، وهو ما يعني أن هناك زمنًا طويلًا أمام الحزب قبل أن يتمكن من العودة إلى السلطة في بريطانيا، بينما سيحصل حزب المحافظين على فرصته في تقوية نفوذه وإعادة مجده السابق. سيحدث ذلك؛ خصوصًا إذا وعي المحافظون لضرورة تنفيذ خريطة سياسية تجعل الحزب يأخذ الاقتصاد نحو اليسار قليلًا، وكذلك سيسهم وضع حد حاسم للخلاف الذي أشعله “البريكست” في تقوية موقفهم.
لقد فجَّر هذا الخلاف موجة طويلة الأمد من الجدال تحولت في بعض الأحيان إلى ما يشبه الهستيريا الجماعية؛ لكن على ما يبدو أن الأمر بات محسومًا الآن، وسيتم تنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 20 يناير القادم، ولحظتها سيبدأ الإنجليز في تلمُّس طريقهم منفردين في العالم كمواطنين لدولة مستقلة، بالضبط كما حدث عام 1973، وإذا أخذنا كل الأمور بعين الاعتبار؛ فإن البريطانيين لم يرتكبوا حماقة كبيرة كما يرى البعض.