
كيوبوست
قصف الجيش الأمريكي في 26 فبراير بنى تحتية حدودية تستخدمها فصائل مسلحة موالية لإيران في شرق سوريا؛ لتهريب السلاح والأفراد من العراق إلى سوريا ولبنان، ما أسفر عن مقتل 17 شخصاً على الأقل من ميليشيات الحشد الشعبي العراقية الموالية لإيران، وذلك في أول عملية عسكرية لإدارة جو بايدن؛ رداً على الهجمات الأخيرة على مصالح غربية في العراق، وهو ما أثار الحديث حول مغزى الخطوة وتوقيتها.
أهداف الضربات الأمريكية:
تسعى واشنطن من الضربات التي وجهتها إلى ميليشيات إيران إلى تحقيق عددٍ من الأهداف، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1-وضع خطوط حمراء لطهران: سعَت إدارة بايدن للرد على الهجوم الذي شنّته ميليشيات الحشد الشعبي ضد القوات الأمريكية في قاعدة أربيل، والذي ترتب عليه مقتل متعاقد أمريكي، بالإضافة إلى جرح أحد أفراد القوات الأمريكية؛ خصوصاً أن الجيش الأمريكي أعلن أن المجموعتَين اللتين تم استهدافهما في العراق تورطتا في الهجوم على القاعدة الأمريكية في أربيل، وهو ما عبَّر عنه صراحة بادين، حين أكد أن الرسالة “لا يمكنك أن تتصرف دون عقاب، يجب أن تحذر”، في رسالة تبدو موجهة إلى إيران.
كما أكد المتحدث باسم البنتاجون أن “العملية توجه رسالة واضحة مفادها أن الرئيس بايدن سيحمي القوات الأمريكية وقوات التحالف”. ولكن يلاحظ أن الهجوم الأمريكي جاء بعد ثلاث هجمات إيرانية ضد أهداف أمريكية، فقد سبق هجوم أربيل في 15 فبراير 2021، هجومان ضد القوات الأمريكية في 23 يناير و22 فبراير في بغداد، وإن كان الاعتداء الأخير على أربيل هو وحده الذي أسفر عن قتل متعاقد أمريكي.
اقرأ أيضًا: الرسائل الأمريكية من استهداف مواقع إيران في سوريا
2-فصل التدخلات الإقليمية عن الملف النووي: تمثلت السياسة الإيرانية في توظيف الميليشيات كعامل ردع ضد واشنطن لتحقيق عددٍ من الأهداف؛ تتمثل أبرزها في منع التصعيد العسكري مع إيران، أو استهداف مكونات برنامجها النووي، فضلاً عن الضغط على واشنطن لرفع العقوبات عن إيران.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية فشلت مع إسرائيل، فإن طهران لا تزال توظفها بنجاح ضد الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الواضح أن بايدن يسعى للضغط على طهران؛ لمنعها من توظيف الميليشيات كوسيلة للضغط على واشنطن، خصوصاً قبيل المفاوضات المرتقبة حول برنامجها النووي، والتي تسعى طهران فيها إلى إحباط الجهود الأمريكية لإضافة ملف الصواريخ الباليستية، وتدخلات إيران الإقليمية ضمن المفاوضات؛ وهو ما لا يتوقع أن يحقق نجاحاً بارزاً، خصوصاً مع تحول ملف الصواريخ وتدخلات إيران الإقليمية إلى مثار قلق لواشنطن والعواصم الأوروبية الرئيسية.

3-استعادة الاتساق للسياسة الأمريكية تجاه العراق: حرصت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على ردع طهران ومنعها من مهاجمة القوات الأمريكية؛ وهو ما وضح في تصفيته لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس، مطلع عام 2020، غير أن سياسة ترامب تجاه النفوذ الإيراني في سوريا والعراق اتسمت بعد ذلك بالارتباك.
ففي الوقت الذي حذر فيه طهران من مهاجمة القوات الأمريكية في العراق، فإنه شرع في الوقت نفسه في تقليص وجوده العسكري في العراق وسوريا، وعلى عكس رغبة الجيش الأمريكي، وهو ما أغرى طهران بتوظيف ميليشياتها لتحقيق هدفها المعلن بإخراج القوات الأمريكية من العراق.
اقرأ أيضًا: إيران وبايدن والقنبلة.. لماذا تُسرع إيران برامجها النووي الآن؟
ويأتي في هذا الإطار إعلان الجيش الأمريكي أنه يبحث استخدام قواعد في غرب السعودية بعيداً عن الأراضي الإيرانية، وذلك لكي يجعل عملية استهدافها من جانب إيران أمراً أكثر صعوبة، ومن ثم التأثير على حسابات طهران في حالة قررت تهديد القوات الأمريكية في المنطقة في حالة نشوب تصعيد عسكري بين الجانبين، ولو كان محدوداً؛ إذ إن صعوبة استهداف هذه القواعد يعني احتفاظ واشنطن بقدرات وأصول عسكرية أكبر في المنطقة يمكن من خلالها الرد على أي اعتداءات إيرانية، وهو ما يثبطها عن التصعيد[1].
4-تجنب خروج الوضع عن السيطرة: أكد مسؤولون أمريكيون أن الضربات كانت محدودة النطاق لإظهار أن إدارة الرئيس جو بايدن، ستتصرف بحزم؛ لكنها لا تريد الانزلاق إلى أتون تصعيد كبير في المنطقة، وتتسق هذه السياسة الأمريكية مع الرئيس السابق ترامب، والذي كان يسعى لردع طهران، دون التورط في تصعيدٍ عسكري كبير.
ويلاحظ هنا أن بايدن تحاشى استهداف الأهداف الإيرانية الأكبر والأكثر أهمية، ومن ذلك قاعدة الإمام علي، وهي القاعدة التي بنتها إيران قرب مدينة البوكمال السورية، على الحدود السورية- العراقية، والتي يتوقع أن تضم الآلاف من القوات الإيرانية التابعة للحرس الثوري الإيراني، كما تضم منشآت محصنة لتخزين الصواريخ، بالإضافة إلى أنفاق داخلية محفورة ومستودعات للأسلحة؛ وهي القاعدة التي تسعى من خلالها إيران إلى تعزيز سيطرتها على المعابر الرئيسية بين العراق وسوريا، فضلاً عن استخدامها كقاعدة متقدمة لمهاجمة إسرائيل.

5-تجنب إحراج الحكومة العراقية: تدرك واشنطن أن حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، تواجه ضغوطاً من جانب ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، والتي تسعى لعرقلة جهوده الرامية إلى تعزيز قوات الأمن العراقية في مواجهتها، ولذلك أقدم الجيش الأمريكي على استهداف ميليشيات “حزب الله” العراقي، على الجانب السوري من الحدود العراقية- السورية المشتركة، وحتى لا يتسبب هذا الهجوم في الضغط على الحكومة العراقية، وتجديد هذه الميليشيات حديثها حول انتهاك العمليات العسكرية الأمريكية للسيادة العراقية، وتطالب بمغادرتها[2].
وتسعى حكومة رئيس الوزراء العراقي الكاظمي إلى تحييد نفسها قدر الإمكان من التصعيد الأمريكي- الإيراني؛ وهو ما وضح في مؤشرَين، أولهما زيارة وزير الخارجية العراقي إلى طهران لحضّها على عدم استخدام العراق كساحة لتصفية الخلافات مع واشنطن، فضلاً عن نفي وزارة الدفاع العراقية تلميحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، بأن العراق شارك معلومات استخباراتية مع واشنطن حول العملية.
اقرأ أيضًا: هل تمردت ميليشيا “العصائب” العراقية على أوامر إيران؟
6-التنسيق مع موسكو: أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أن الولايات المتحدة حذرت الجيش الروسي قبل أربع أو خمس دقائق من تنفيذ الغارة الجوية ضد الميليشيات العراقية، وذلك عبر خط ساخن قائم بين الجانبين[3]؛ وهو ما يؤشر على اتجاه بايدن للتنسيق مع روسيا في الملف السوري. وقد تطول هذه المفاوضات، في مرحلةٍ تالية، إمكانية استئناف إدارة بايدن المفاوضات التي بدأها ترامب مع روسيا وإسرائيل، والتي كانت تهدف في جانب منها إلى تحجيم الوجود الإيراني في سوريا.
حسابات التصعيد الإيرانية:
من المتوقع ألا تنجح الضربات الأمريكية في ردع إيران عن توظيف ميليشياتها المسلحة ضد الوجود الأمريكي؛ خصوصاً أن التقييم الإيراني يرى أن الضربات الأمريكية على البوكمال لم تكن كلفتها مرتفعة، خصوصاً أن طائرات الاستطلاع المسيرة الأمريكية طارت فوق المنطقة المستهدفة قبل تدميرها بالمقاتلات الأمريكية، وهو ما مكن الميليشيات العراقية الموالية لإيران من سحب أغلب عناصرها قبل الهجوم، وهو ما خفض من خسائرها البشرية، ولذلك، فإن طهران قد تستمر في توظيف الميليشيات الشيعية المسلحة ضد الوجود الأمريكي؛ خصوصاً في العراق.

ولعل من المؤشرات في هذا الإطار تصريحات علي شمخاني؛ أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، السبت، أي في اليوم التالي للهجوم الأمريكي على البوكمال، وذلك أثناء لقائه فؤاد حسين، وزير الخارجية العراقي، الذي يزور إيران حالياً، حيث أكد شمخاني أن “الإجراءات الأمريكية الأخيرة تعزز وتوسع أنشطة تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة”، مضيفاً أن بلاده “ستواجه الخطة الأمريكية لإحياء الإرهاب في المنطقة” دون أن يخوض في التفاصيل[4]، وهي التصريحات التي يمكن قراءتها على أنها تحمل تهديدات إيرانية مبطنة.
ولكن ما قد يكبح طهران عن التصعيد هو أن مواصلتها الهجمات على المصالح الأمريكية في العراق سوف تستتبعها هجمات انتقامية من جانب الجيش الأمريكي؛ وهو ما يزيد من حدة التصعيد بين واشنطن وطهران، ويجعل الولايات المتحدة تعيد التفكير في الدبلوماسية كأداة مناسبة لحلحلة أزمة الملف النووي الإيراني؛ خصوصاً أن قوى إقليمية مؤثرة، مثل إسرائيل، تعارض المفاوضات المباشرة مع إيران، وتفضل سياسة العقوبات القصوى لإدارة ترامب السابقة.
اقرأ أيضًا: الاستراتيجية الأمريكية في سوريا قد فشلت
ولذلك، فإن طهران قد تفكر في خيارٍ بديل، وهو العودة إلى تهديد حلفاء واشنطن الإقليميين، مع التراجع عن استهداف القوات الأمريكية في العراق، ولو مرحلياً، وفي هذا الإطار، يمكن أن يمثل تفجير طهران لسفينة “هيل يسري” المملوكة لإسرائيل، الخميس الماضي، في خليج عمان، أو تهديد منشآت الطاقة في السعودية، وكذلك الملاحة في البحر الأحمر أحد الخيارات الإيرانية الأقل تكلفة من وجهة نظر طهران، والتي تستهدف من خلالها إنزال خسائر على حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين، وذلك رداً على استمرار العقوبات الأمريكية عليها.
المراجع:
[2] https://on.wsj.com/2NL69TF
[3] https://on.wsj.com/2NL69TF