الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
الإنفلونزا الإسبانية.. أم جميع الأوبئة الحديثة

كيوبوست
إذا كان فيروس كورونا الذي ظهر في “ووهان” الصينية يُقلق المجتمع الدولي، إلا أنه لا يُقارن بالخراب المدمر الذي سببته الإنفلونزا الإسبانية التي أصابت العالم في مقتل مطلع القرن الماضي.
قرن من الزمان
تعتبر هذه الإنفلونزا الأسوأ بين جميع الأوبئة؛ بل هي أسوأ حتى من الطاعون الأسود الذي رافق سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرون الوسطى.. انتشر هذا الوباء بين عامَي 1918 و1919، بالتزامن مع النهاية المأساوية التي غرقت فيها الأنظمة الملكية في أوروبا القديمة، وكانت هذه الإنفلونزا ستجني من الضحايا ما يزيد على جميع ضحايا المعارك والمناوشات التي وقعت منذ عام 1914 وحتى اليوم؛ حيث يقدِّر الباحثون أن الإنفلونزا الإسبانية حصدت ضحايا بين 50 و100 مليون شخص، وربما أكثر في زمن كان عدد سكان العالم فيه لا يتجاوز مليارَي شخص.
اقرأ أيضًا: الحرب البيولوجية منذ عصر اليونان حتى “كورونا”
في ربيع عام 1918، حدَّد طبيب يعمل في ولاية كانساس الأمريكية، أعراضًا مرضية على أحد الطهاة، قال المؤرخون الطبيون لاحقًا إنها أول حالة ظهور للمرض. وبعد أسبوع، تم نقل 100 مجند إلى المستشفى، وأُصيب أكثر من 500.. هؤلاء الجنود الشباب كانوا يخضعون للتدريب هناك قبل نشرهم في أوروبا؛ لذلك انتقل المرض إلى أوروبا، مع عمليات نقل القوات عبر المحيط الأطلسي.
في الخنادق والملاجئ المكتظة؛ حيث كان الجنود يعيشون في ظروف صحية سيئة للغاية، كان لابد من حدوث طفرة جعلت الفيروس أكثر خطورةً؛ ما جعل الفيروس ينتقل في موجة ثانية إلى المدنيين في بلدانهم الأصلية. لم يسبق للعالم أن ارتبط بمأساة كهذه كما يقول أحد المؤرخين الطبيين: “لقد انتشر الوباء في جميع أنحاء العالم؛ لكن إفريقيا وآسيا عانتا بشكل كبير”.

لغز محيِّر
تم منع المقالات المنشورة عن ظهور الفيروس في ربيع عام 1918، ولم يقرأ العالم عن هذا المرض لأول مرة سوى في الصحافة الإسبانية التي كانت محايدة وتتمع بسقف حرية في ذلك الوقت؛ لأنها لم تشارك في الحرب، لذلك عُرفت باسم “الإنفلونزا الإسبانية”. لكنها ارتبطت في الأذهان دائمًا بفكرة التهديد القادم من الخارج؛ ففي السنغال مثلًا كانت تُسمى “الإنفلونزا البرازيلية”، وفي البرازيل “الإنفلونزا الألمانية”، وفي بولندا “الإنفلونزا البلشفية”، وفي إيران كانت تسمى “الإنفلونزا البريطانية”.
إلا أن غياب الوسائل التشخيصية والعلاجية في عام 1918 لم يكن هو السبب الوحيد لارتفاع أعداد ضحايا وباء الإنفلونزا؛ بل يُضاف إلى ذلك أيضًا تردي الأوضاع المعيشية في هذه الحقبة العصيبة من تاريخ البشرية التي دارت فيها رحى الحرب العالمية الأولى.
شاهد: فيديوغراف.. قفزة في وفيات “كورونا”
حتى اليوم، وبعد قرن من هذه “الإنفلونزا العالمية”، وبعد عقود من التقدم في مجال الأبحاث، يبقى عديد من الألغاز مُعَلَّقًا: ما أنواع الحيوانات التي نقلت هذا المرض إلى البشر؟ هل حدث هذا في ريف كانساس بالولايات المتحدة؟ أم أنه ظهر في الشرق الأقصى؟ أعاد علماء الأوبئة نشر تقارير المستشفيات وعدد القتلى ومقالات الصحف والإحصاءات العسكرية والحكومية التي وثَّقت هذا الوباء في تلك الحقبة، وكلها تجمع على أن هذه الحمى تحوي من الخصائص التي تجعلها النموذج الأم للوباء الحديث المكتشف في الصين.
اقرأ أيضًا: فيروس كورونا يفرض تحديًا جديدًا أمام العلاقات الصينية- الأمريكية
لم يتمكن العالم في ذلك الوقت من تحديد أصل هذا الوباء.. تتبع العلماء الفيروس منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ثمانين عامًا تقريبًا، عُثر على رفات بشرية تُوفيت بالمرض، وتمكنوا من تتبع تسلسل خيوط الفيروس من خلال الحمض النووي.. في عام 2005، وصفت مجلة “ساينس” أن فيروس إنفلونزا الخنازير “H1N1″، ما هو إلا نسخة متطورة من الإنفلونزا الإسبانية؛ وهو ما يجعل من فيروس عام 1918 “أم جميع الأوبئة”.