الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفةشؤون خليجيةشؤون دوليةشؤون عربية

الإسلام السياسي والديموقراطية في تركيا.. عقب انتخابات إسطنبول

ترجمات-كيوبوست

خسر حزب العدالة والتنمية؛ الحزب الحاكم في تركيا، إعادة الانتخابات التي أجراها قسرًا للمترشحين لمنصب عمدة إسطنبول في 23 يونيو. هذه النتيجة دفعت بعضَ المراقبين للتساؤل عما إذا كانت هذه ستكون بدايةَ النهاية للرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يقود حزبَ العدالة والتنمية منذ عام 2001، والدولةَ منذ عام 2003(1). غير أن السؤال الأهم هو عن إمكانية عكس مسار التغييرات المجتمعية التي رسخها لدفع تركيا إلى اتجاه أكثر نحو الإسلام السياسي، عقب رحيل أردوغان وحزبه.

جيش الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى

تأسيس جمهورية علمانية

في أعقاب ظهور الإسلام، والفتوحات العربية خلال عهد النبي محمد وخلفائه المباشرين، حكم الإمبراطوريةَ الإسلامية الأمويون، ثم العباسيون، وكلاهما من الأسر العربية. وبعد الغزو المغولي للشرق الأوسط في القرن الثالث عشر وسقوط بغداد، تم نقل مقر الخلافة العباسية رسميًا إلى مصر لفترة، حتى غزا الأتراك العثمانيون القاهرة في عام 1517 ونقلوا مقر الخلافة إلى اسطنبول، التي كانت تعرف وقتئذ باسم القسطنطينية، وظلت هكذا لأربعمائة عام تالية.

دخل العثمانيون الحرب العالمية الأولى في عام 1914 إلى جانب ألمانيا والنمسا، ومع نهاية الحرب لم تُهزم الدولة العثمانية فقط، بل احتلت من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا – والأكثر استفزازًا- اليونان(2). وتشكَّلت حركةُ مقاومةٍ وطنية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وهو ضابط في الجيش كان قد اكتسب مكانة خلال “الحرب العظمى” من خلال صدّ التوغل البريطاني في جاليبولي، وبحلول عام 1923 كان كمال قد تسيّد المشهد.

مصطفى كمال أتاتورك.. مؤسس الدولة التركية الحديثة

تغيّر الظروف على أرضِ الواقع، أجبر الحلفاء على إلغاء معاهدة سيفر التي اقترحت لتقسيم الأراضي العثمانية السابقة، والتوقيع على معاهدة لوزان في يوليو 1923. وفي أكتوبر من ذلك العام، تم الإعلان عن جمهورية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وكان المكتب الإداري للسلطان -الذي كان يدير حكومة منافسة لحكومة “الجمعية الوطنية الكبرى” التي يقودها كمال في أنقرة- قد أُلغيت رسميًا من قبل حكومة الجمعية الوطنية الكبرى في نوفمبر 1922، وفي مارس 1924 تم إلغاء المكتب الروحي للخلافة من قبل الحكومة الكمالية.

لقد أسَّس كمال ثورةً بالمعنى “الحقيقي” للكلمة، مثلما ينطبق على الثورة الفرنسية أو الروسية، وقاد تحولاتٍ جذرية هائلة تُغيِّر النظامَ الاجتماعي والسياسي بأكمله(3). وكان الإصلاحُ الحاسم هو إلغاء اعتبار الدين الإسلامي دينًا للحكومة، وسُنّت العلمانية “الصلبة” على الطراز الفرنسي. وبينما كانت الشريعة الإسلامية هي القانون العثماني في السابق، أدخل كمال القانون السويسري وكيّفه بما يناسب الاحتياجات التركية. وأعلن الحكومة التركية حكومة “وطنية ومادية: تقدس الواقع”. “حكومة لا ترغب في ارتكاب جرائم القتل أو جرّ الأمة إلى مستنقعات بحثًا عن أيديولوجيات عديمة الفائدة”(4). كان كمال معاديًا لجميع الأيديولوجيات عبر الوطنية، سواء في شكل النزعة التورانية القومية، أو النزعة الإسلامية القومية، معتبرًا إياها مضرة بمشروعه الرامي لإعادة تشكيل تركيا كدولة حديثة مقبولة داخل النظام الدولي(5).

أتاتورك مع الجنرال الروسي مارسيلوف

خلال حربِ الاستقلال، تلقى كمال مساعدةً كبيرة من الاتحاد السوفييتي لمحاربة القوى الغربية التي تحتل تركيا(6). ثم في أعقاب الحرب، اتجه كمال بعيدًا عن الشرق -سواء روسيا الشيوعية أو الأراضي العثمانية الإسلامية السابقة- واتجه نحو الغرب. وتم تغيير اللغة التركية من النص العربي إلى النص الروماني، في قطيعةٍ حاسمة مع الماضي مثل خطوة إلغاء الخلافة. كان هذا يعني أن معظمَ الأتراك ببساطة لا يستطيعون قراءة تاريخهم الذي كُتب قبل عام 1929. وتم اتباع الأسلوب الغربي فيما يخص أسماء العائلة: مصطفى كمال مثلا أصبح كمال أتاتورك (أبو الأتراك). وتم حظر الملابس الإسلامية المميزة، الطربوش للرجال، والحجاب للنساء، كما تم حظر تعدد الزوجات، ومنح المرأة حقوقا متساوية في الزواج. ولعل القرار الأكثر صدمة هو منح المواطنين الأتراك الحق القانوني في تغيير دينهم(7).

تراجع العلمانية

عندما توفي أتاتورك في نوفمبر 1938، بعد ثمانية عشر شهرًا من المرض، ترك وراءه هيكلًا حزبيًا واحدًا يشرف عليه حزب الشعب الجمهوري(8). وفي غضونِ ثماني سنوات، أفسح هذا الأمرُ المجالَ لنظام متعدد الأحزاب، وفي مايو 1950 وقع “حدث تاريخي، لم يسبق له مثيل في تاريخ الدولة [أو] المنطقة”: حزب حاكم في دولة من دول الشرق الأوسط، بعد أن رتَّب انتخاباتٍ حرة وعادلة، لكنه خسرها، وينسحب سلميا من السلطة، ويسلمها إلى المعارضة(9). وسرعان ما ظهر أن تركيا “دولة ممزَّقة”(10). وإذا كانت النخبة (المتغربنة)، التي تبنت الأسلوب الغربي، قد ارتقت إلى مستوى مُثُلها العليا، وسمحت بمزيد من الحرية للسكان، فإن السكان سيختارون أن يأخذوا الدولة في اتجاه أكثر دينية وليبرالية. وكان ذلك من بين الأسباب التي جعلت الجيش التركي يتدخل في ما سيكون أول انقلاب من بين أربعة انقلابات في عام 1960، حيث تمت إقالة رئيس الوزراء عدنان مندريس وإعدامه في نهاية المطاف(11).

اقرأ أيضًا: كيف تستغل تركيا المساجد الأوروبية لتنفيذ نشاطات تجسسية واستخباراتية؟

الأمر الذي أثار دهشة الكثيرين هو أن القوات العسكرية قد انسحبت بسرعة من السلطة، وسلمتها إلى حكومة مدنية. واعتبر الدستور الذي تركه الجيش، المعاد صياغته، وثيقة ليبرالية أتاحت حيزًا أكبر للاشتراكيين عما كان متاحًا في السابق، ولكن على مدى العقد التالي لذلك، سيطر الاستقطاب السياسي على تركيا. ومع وقوع اشتباكات في الشارع بين القوى اليسارية واليمينية، تدخل الجيش مرة أخرى في عام 1971، ما عُرف باسم “انقلاب المذكرة” أو “coup by memorandum”. ولم تتمكن حملة القمع اللاحقة من استعادة النظام، بل أثَّرت -إلى حدٍ كبير- على اليسار، الذي نُظر إليه على أنه التهديد الرئيسي في سياق الحرب الباردة(11).

وطوال فترة السبعينيات، توجه اهتمام الجيش التركي في المقام الأول إلى اليسار المتشدد، الذي كان يتلقى الدعم من الخارج، من الاتحاد السوفييتي، الذي كان يعمل من خلال حليفه، نظام حافظ الأسد في سوريا. وبدوره، قام الأسد بتفويض إرهابيين فلسطينيين في مخيماتهم في سوريا، والمناطق التي تحتلها سوريا في لبنان لتدريب اليساريين الأتراك على أسلوب “حرب العصابات في المناطق الحضرية”. وبحلول نهاية فترة السبعينيات، كان اليمين المتشدد في تركيا قد بدأ في تشكيل قوات شبه عسكرية أيضًا(13). في هذا الجو، وفي مواجهة التخريب اليساري المدعوم من الخارج، ورد اليمين القومي المتطرف الذي يزداد عنفًا، بدأ تيار الإسلام السياسي يترسخ بقوة في تركيا.

نجم الدين اربكان مع أردوغان

أسس نجم الدين إربكان أوَّل حزب إسلامي يدخل البرلمان التركي في عام 1970، وسيتطور هذا الحزب في نهاية المطاف إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان. وقد نجح إربكان في الانضمام إلى الحكومة في فترة السبعينيات في تحالف مع اليسار، وبدأ خلال الفترة القصيرة التي قضاها في منصبه في تسييس الشرطة التركية بعد السيطرة على وزارة الداخلية. انضم أردوغان إلى جناح الشباب في حزب إربكان في عام 1976(14). ولم يكن لدى الجيش التركي ببساطة الموارد اللازمة لحرف الحركة الإسلامية الوليدة عن مسارها، حتى لو أراد ذلك، ولكن الجيش كان أيضًا يعيد تقييم وجهة نظره، وبدأ ينظر إلى الإسلام كعنصر موحد وحصن ضد الفوضى السياسية التي كانت تعصف بتركيا(15).

وفي سبتمبر 1980، وفي ظلّ سيطرة عصابات الماركسيين على أحياء المدن الكبرى، ومحاولة القوميين المتطرفين الردّ بالمثل، كانت تركيا أقرب ما يكون من حالة الحرب الأهلية، لكن الجيش تدخل هذه المرة بشكل حاسم. ورغم أن الإسلاميين تعرضوا لممارسات قمعية بصورة أكبر مما تعرضوا له عام 1971، وتم منع إربكان من ممارسة العمل السياسي، بالإضافة إلى أمور أخرى، فإن اليسار كان الأكثر تضررًا، وبدأ توجه الجيش لاعتبار الدين كضمان ضد التشدد السياسي يأخذ طابعًا مؤسسيًا.

وحشية المجلس العسكري الذي يقوده رئيس هيئة الأركان العامة، الجنرال كنعان إيفرين، ملأت السجون بمئات الآلاف من السجناء، حيث تعرضوا بصورة روتينية للتعذيب، ودفع الكثيرين منهم إلى المنفى. نجح الجيش في استعادة النظام، وكان المتطرفون الذين دفعوا تركيا إلى حافة الهاوية من بين المسجونين والمطرودين. ولكن حملة إيفرين ضد اليسار – التي نجحت وحطمت اليسار في تركيا ولم تقم له قائمة بعد ذلك- وضعت، عن غير قصد، الأسسَ لانتصار الإسلاميين، في وقتٍ لاحق. وقد التقط الإسلاميون أولئك الناخبين من الطبقة العاملة، الذين سبق لهم أن اتجهوا إلى التيارات اليسارية.

علاوة على ذلك، أدت جهود إيفرين لإدخال نسخة قومية من الإسلام في الساحة العامة لتحصينها ضد الشيوعية، إلى تطبيع عملية استدعاء الدين بطريقةٍ لم يكن لأتاتورك أن يتصورها أبدًا وأعطت القوى السياسية الدينية الأكثر تشددًا المتأثرة بجماعة الإخوان المسلمين، التي تلتف حول إربكان، المساحة التي تحتاجها(16).

بحلولِ منتصف الثمانينيات، تفكك الطوق المفروض على إربكان وآخرين في السياسة، لقد أصبحت القيود ببساطة غير قابلة للتنفيذ. كان أردوغان نجمًا صاعدًا في حركة إربكان في أواخر الثمانينيات، وتم انتخابه عمدة لإسطنبول في عام 1994، حيث اضطر منتقدوه أن يعترفوا بأنه قام بأعمالٍ جيدة. فلقد تحسنت الخدمات، وكذا حالة الفقراء، تحت إدارة أردوغان. ومع تشرذم اليمين القومي، وتفشي الفساد في كل حزب في البرلمان، وجد إربكان طريقه إلى رئاسة الوزراء في يونيو 1996، إلا أن الجيش أقاله في “انقلاب ما بعد الحداثة” بعد عام واحد(17).

اقرأ أيضًا: تركيا مرفوضة “دائمًا” من الاتحاد الأوروبي

تعلم أردوغان الدرس من سقوط إربكان، لذا انفصل عن معلمه القديم، وقدم وجهًا أكثر اعتدالًا. هذه الصيغة الديمقراطية الجديدة، جنبًا إلى جنب مع الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية، من قبل الأحزاب الرئيسة، جعلت أردوغان في وضعٍ جيد للانتخابات التي أُجريت في نوفمبر 2002. وهكذا، ساعد شرط تحقيق عتبة الـ 10% اللازمة لدخول البرلمان، والتي صاغها أتباع إيفرين، في أن يكون اسهامًا أخيرًا في إكمال هذه “الظروف المثالية”، ورغم أن شرط الـ 10% الذي اعتبر شرطًا دستوريًا يهدف إلى إبعاد القوى المتطرفة، وهي الإسلاميين، وحزب العمال الكردستاني الانفصالي، وقتها، لكنه حمل نتائج عكسية تمامًا في حالتنا تلك. فالاستياء الذي شعر به السكان بالنسبة للأحزاب الرئيسة أدى إلى عدم حصول معظمها على الحد اللازم، ومن ثم دخل حزب العدالة والتنمية البرلمان بأغلبية عظمى بثلث الأصوات فقط(18).

تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية

في السنواتِ القليلة الأولى من قيادة الحكومة، نفَّذ حزبُ العدالة والتنمية سياساتٍ تحظى بشعبية كبيرة لدى الناخبين الأتراك، وإيجابية بأي مقياس موضوعي. وتم تخفيف جزء كبير من القيود السياسية التي وضعها المجلس العسكري في عام 1980. وتم تخفيف القوانين العلمانية المفرطة في التقييد. وفي أقلِّ من عشر سنوات، تضاعف حجمُ الاقتصاد التركي ثلاث أضعاف، محولًا تركيا من دولةٍ هامشية إلى قوةٍ إقليمية، غير أنه إلى جانب ذلك، كانت هناك توجهات سلبية.

جولن مع أردوغان

وفي حينِ كان أردوغان يتراجع صوريًا عن النسخة الاستبدادية التي وضعها الجيش، لكنه في واقع الأمر قد قام بإجراءاتٍ استبدادية، من زاويةٍ أخرى، من خلال الاستعانة بحلفائه في حركة جولن، الذين يديرون السلطة القضائية، والشرطة الوطنية، لملاحقةِ النخبة الكمالية وتفكيكها، في محاكمتين استعراضيتين ضخمتين، هما “إرجنكون” و”المطرقة”، اعتمادًا على أدلَّةٍ مفبركة بشكل فج(19)، لم تكن حتى متسقة أو متماسكة(20).

وبعد حدوثِ خلافٍ بين أردوغان وأتباع حركة جولن في عام 2013 وتحوله لتطهيرهم من مؤسسات الدولة، وبشكلٍ أكثر من ذلك بعد محاولة الانقلاب في عام 2016، تآكلتِ الحريةُ أكثر في تركيا، مع جملةٍ أمور منها القضاء الذي لا يمكن لأي مراقب محايد أن يصفه بأنه مستقل، ووسائل الإعلام التي أصبحت بالكامل تقريبًا في أيدي الحكومة والموالين لها. (في محاولةٍ لتحسين صورته، قرر أردوغان الآن أن سلسلة المحاكمات الصورية كانت بأكملها عارًا جنائيًا، ملقيًا باللوم بالكامل على أتباعِ حركة جولن، وصدر عفوٌ عن جميعِ من قُبض عليهم في تلك الحملة القمعية)(21).

وعلى قدرِ الضرر المؤسسي الذي لحق بالحكومة التركية من جرّاء سياسات أردوغان، من الممكن تخيل كيف يمكن لرئيسٍ جديد أن يصحح ما حدث. والأصعب هو كيفية عكس مسار التغييرات المجتمعية التي نفذتها حكومته الإسلامية. والواضح أن إربكان لا يزال يشكل تأثيرًا رئيسًا على أردوغان. ويبدو أن تأثير إربكان كان شديدًا بصورةٍ جعلت شخصًا مثل أسامة بن لادن زعيم القاعدة والذي دخل في التشدد الإسلامي بالانضمام أولًا إلى جماعة الإخوان المسلمين، يتأثر به وقتها، ويعتبره مصدر إلهامًا له، وقام بن لادن وقتها بأوِّل رحلة له إلى تركيا بسبب إربكان(22).

وليس من الصعب معرفة السبب، فهناك قواسم مشتركة عدّة جمعت فكر إربكان بفكر بن لادن والإخوان المسلمين. فقد تأثرت نظرة إربكان إلى العالم، وهي رفض الإسلام التركي التقليدي، تأثرت بصورة كبيرة بتيارات من العالم العربي، لا سيما المذاهب التي روّج لها مُنظّر الإخوان سيد قطب التي ستشكِّل، فيما بعد، ركائز للحركة الجهادية(23). إنها نظرةٌ معاديةٌ للغرب بصورة كبيرة، حيث ترى أوروبا وأمريكا غنيتين ماديًا وقاحلتين روحيًا. كما أنها نظرةٌ تتبنى نظريات المؤامرة، ومعاداة السامية قبل كل شيء. لقد ربط إربكان محاولة اليهود الظاهرة للسيطرة على العالم بجميع نظريات المؤامرة التقليدية- حول مجموعة بيلدربيرج، وما يُعرف باللجنة الثلاثية (Trilateral Commission)، وبقية النظريات(24).

وبالبحثِ حول جوانب فكرية أخرى أثَّرت في أردوغان، نجد نجيب فاضل قيصاكورك، وهو شاعر وكاتب وكانت أيديولوجيته التركية أكثر وضوحًا وتميزًا من أيديولوجية إربكان. لقد رفض قيصاكورك النزعة المستوحاة من السلفيين المناهضة للصوفية التي تبناها سيد قطب، وأبو الأعلى المودودي. كان يعتقد أن هذا الأمر قد أعماهم عن المعاني الجوهرية للإسلام، كما أوضح من قبل شيوخ من القرون الوسطى مثل الإمام أبو حامد الغزالي.

وفي حين أن هذا قد يجعل قيصاكورك يبدو أكثر “اعتدالًا”، فإن وجهة نظر قيصاكورك في الواقع، والتي تأثرت مباشرة بالفاشية الأوروبية والبلشفية، كانت استبدادية صريحة، حيث كان يحتقر الديمقراطية، ويريد قمع جميع أشكال التنوع، ولا يؤمن بخصوصية حياة المسلمين. قيصاكورك كان عنصريًا أكثر من إربكان، وكانت معاداته للسامية أكثر شدة: فلم يؤمن قيصاكورك بنظريات المؤامرة بوضوح مثل إربكان، وبدلًا من ذلك وضع اليهود كجزء رئيسي في سرديته القومية والعرقية عن الخيانة الأبدية، ومسؤولية اليهود عن انهيار الإمبراطورية العثمانية. ودعا قيصاكورك إلى التطهير العرقي المباشر لليهود من تركيا. ومع ذلك، ورغم تعصبه هذا، كان قيصاكورك براجماتيًا أيضًا: فقد كان ينادي بأخذ الجوانب المفيدة من الغرب – مثل التكنولوجيا- بل والحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب حينما كانت الدول الإسلامية ضعيفة، ولم يصبح معاديًا علنًا إلا بعد أن نجحت ثورة الإسلاميين(25).

ويواصل أردوغان إلى اليوم حضور الفاعليات التي تُكّرم قيصاكورك، وقد شهد مرات عديدة على تأثير “المعلم” على فهمه للعالم. إن إعادة هيكلة الحكومة التركية، وإنشاء رئاسة تنفيذية وخنق استقلال المحاكم، مستوحاة من وجهة نظر قيصاكورك حول المجتمع المثالي. وبالمثل أيضًا، يعتبر أردوغان أن جزءًا من دوره هو تنشئة “جيل متدين”، ويمارس الوعظَ في الأمور الاجتماعية والأخلاقية، فلقد أراد قيصاكورك قائدًا أعلى يكون أيضًا مرشدًا أخلاقيًا، وبما أنه لا توجد حياة خاصة، فإن كل شيء يصبح من شأن الدولة ويخضع لسيطرتها. ويمكن القول إن نظرة أردوغان لإسرائيل، واستخدامه لعبارات معادية للسامية، تكاد لا تخفى على أحد، مثل تعبيره “لوبي أسعار الفائدة”، وغيرها، لكنها في الواقع آليات أردوغان للتهرب من مسؤوليته عن المشكلات التي تواجهها الدولة، بالاعتماد في حقيقة الأمر، بل وتنبع بشكل منطقي، على أفكار قيصاكورك أيضًا(26).

اللافت أن انتشار ونفاذ أفكار إربكان وقيصاكورك قد تعدى الإسلاميين في تركيا، وأصبحت معاداة السامية ونظريات المؤامرة هي الآن دعامة أساسية للمعارضة العلمانية، التي يبدو أنها تعكس بصورةٍ ما ارتداد أفكار الإسلاميين عليها وإن كان بشكل مُعدّل(27). الأزمة هنا أن هذه المشكلة باتت تتعدى الحدود التركية، فتركيا تاريخيًا ظلَّت لفترة طويلة منذ السلاجقة قوةً مهيمنة في العالم الإسلامي. وفي الوقتِ الحاضر تحاول العودة مجددًا إلى هذه الحالة السابقة، ويبدو أن ظروفًا عدة تساعدها في ذلك. فمع سقوط جماعة الإخوان المسلمين عن سدّة الحكم في مصر عام 2013، لجأ العديدُ من الإخوان المصريين إلى تركيا، حيث مُنحوا المجالَ لبثّ أفكارهم المتطرفة والتحريض ضد الحكومة الجديدة(28).

تركيا وآسيا الوسطى

تسعى تركيا الأردوغانية، بكل قوةٍ، للتغلغل خارج حدودها، وهناك حالة لا تحظى بتسليط ضوءٍ كافٍ عليها هي دولُ آسيا الوسطى السوفييتية السابقة، والقوقاز، حيث انخرطت حكومةُ حزب العدالة والتنمية في جهودٍ واسعةِ النطاق للتواصل، ونشر الإسلام السياسي، من خلال توفير المواد الدينية والتعليمية. ورغم أن هذه المجتمعات المسلمة تُعتبر تركيّة من حيث الأصل العرقي، فإن أنقرة أقامت علاقاتها معها في فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي على مرتكزات دينية(29).

وقد واجهت أنقرة بعض الصعوبات؛ لأن الممارسات السوفييتية كانت تحطم تمامًا البنى الدينية في هذه الدول، إن لم يكن حولوها إلى علمانية تمامًا، لكن يبدو أن الجهود التركية حققت بعضَ النجاحات، ويُشار إلى أن شبكة المؤسسات التعليمية التركية، لعبت دورًا بارزًا في التأثير على دول آسيا الوسطى(30). واللافت للاهتمام أن معظم جهود التواصل والتأثير التركي في هذه الدول قام بها أتباع حركة جولن، قبل أن ينفصلوا عن حزب العدالة والتنمية(31). وقد ضغطت تركيا على هذه الدول لإغلاقِ المدارس والمؤسسات الأخرى المرتبطة بجولن، والتي افتتحت في إطار تلك الجهود. ولكن، على سبيل المثال في تركمانستان، أتت الحملة ضد جولن من السكان الأصليين، وسط اتهامات باستخدام المدارس لاستمالة النخبة واختراق الحكومة(32).

بعد فترةٍ وجيزة من اندلاعِ الخلافِ بين أردوغان وفتح الله غولن، الذي شارك فعليًا في تنفيذِ مشروع تطوير شبكة المؤسسات التعليمية التركية، في دول آسيا الوسطى، اتضح لأردوغان أنّ جماعة غولن أسَّست هذه الشبكةَ لمصلحتها الخاصة، مما يعني أنها لا تهدفُ لتحقيقِ مساعي أنقرة بالأساس. وفي الواقع، كان أردوغان وغولن قد اتفقا حول مسألة السيطرة على المنطقة بهذه الطريقة، لكن الأمور اتخذت منحى آخر. نتيجة لذلك، بات الهدفُ الرئيسي لتركيا، حاليًا، لتحقيق مساعيها، قائمًا على أساسيْن اثنيْن، أولهما تطهير المجال السياسي في المنطقة من هياكل غولن، وثانيهما، وهو الأهم، فتح سوقٍ جديدة للسلع والخدمات التركية، بما في ذلك إنشاء مشاريع مشتركة مع دول آسيا الوسطى.

العلاقات التركية-الأسيوية

وفي مناطق أبعد باتجاه الشرق، وجد الأويغور في شينجيانغ، الذين يواجهون قمعًا كاسحًا من الحكومة الصينية، في أردوغان مدافعًا عن قضيتهم. لكن الحكومة التركية لم تميّز كثيرًا بين الأبرياء الذين يتعرضون للاضطهاد والمتطرفين. لذلك تمكن جهاديو الأويغور من الانتقال من الصين، عبر تركيا، إلى سوريا بشكل روتيني، والانضمام إلى الجماعات المتطرفة هناك(33).

هل اقتربت نهاية أردوغان؟

خسر مرشح حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدرم، الانتخابات المحلية لمنصب عمدة اسطنبول في مارس 2019 لصالح مرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو، لكن المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا ألغى النتيجة، بأغلبيةِ سبعة إلى أربعة أصوات، وأصدر أمرًا بإعادة الانتخابات. ولا شك أن أردوغان مارس ضغوطًا لإجبار المجلس الأعلى للانتخابات، على إصدار هذا القرار. وندَّد أحد قادة حزب الشعب الجمهوري بالقرار، ووصفه بأنه “دكتاتورية فجة”(34).  وكان هذا، في الواقع، انتهاكًا صارخًا، بشكلٍ غير عادي، للنظام الديمقراطي التركي.

ومنذ أن وصل أردوغان إلى السلطة، تم القضاء بشكل منهجي على الضوابط الرقابية على سلطته، ولكن ظلَّ شكلٌ واحد من أشكال المساءلة في هذا النظام “الاستبدادي التنافسي” الذي لم يتمكن أردوغان من الفرار منه وهو الانتخابات. لقد اعتمد أردوغان في سرديته حول نجاحه في الوصول إلى السلطة على الشرعية الانتخابية باعتبار أنه: “صوت الأغلبية الصامتة المحرومة من حقوقها من الأتراك المتدينين خلال سنوات الهيمنة الأتاتوركية”. وحتى مع تزايد الظلم في الانتخابات، مع ميل كفة الميزان بقسوة أكبر ضد المعارضة، كانت يد أردوغان مغلولة عن تزوير الانتخابات بشكل مباشر أو إلغائها. ولذلك، تُعتبر الأحداث التي وقعت في إسطنبول تطورًا جديدًا.

ويبدو الدافع وراء تصرف أردوغان ومخاطرته بفقدان أهم ركيزة متبقية من شرعيته من خلال مثل هذا الاحتيال الصارخ غير الديمقراطي، يبدو استنادًا على مقولته هو نفسه: “إذا خسرنا إسطنبول فسنكون قد خسرنا تركيا”(35). هذه ليست مسألة هيبة وسلطة سياسية فقط. ذلك أن إسطنبول توفر مبلغًا هائلًا من الأموال النقدية اللازمة للحفاظ على استمرار أداء حزب العدالة والتنمية لمهامه وأنشطته. يحكم المدينةَ شبكةٌ من رجال الأعمال المؤيدين لـ “حزب العدالة والتنمية” الذين يعملون -جنبًا إلى جنب- مع مسؤولي الدولة، لخلق فرص العمل وتوفير الخدمات، من خلال مشاريع البناء والبنية التحتية، الأمر الذي يعزز شعبية الحزب، ويجلب الثراء لرجال الأعمال وحزب العدالة والتنمية.

ولذلك، فإن خسارة حزب العدالة والتنمية لانتخابات إسطنبول للمرة الثانية في 23 يونيو، وخسارة هذا الهامش الحاسم (حوالي عشر نقاط مئوية) تُعد ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية. وعلى قدرِ الأهمية التي تتسم بها إسطنبول بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، كان بإمكان أردوغان أن يحاول الحفاظ على مسافة أكبر بينه وبين الانتخابات، لكنه وضع كل ثقله وراء هذه العملية، ومع ذلك لم ينجح. حتى أن حي الفاتح، حي محافظ للغاية في اسطنبول، صوَّت لصالح حزب الشعب الجمهوري للمرة الأولى في التاريخ(37). علاوة على ما سبق، فهناك مؤشراتٌ أخرى على تراجع حزب العدالة والتنمية منذ إجراء الانتخابات(38)، ومن الواضحِ أن المعارضة قد اكتسبت المزيدَ من الجرأة. لكن يظل السؤال هو إلى أي مدى يمكن إجبار أردوغان على التراجع. إذ لا يزال هو والموالين له يسيطرون على مفاصل الدولة، التي يمكن استخدامها لتقويض سلطة إمام أوغلو. ومهما كان حجم النجاحات التي يمكن أن تحققها المعارضة سياسيًا، فإن إصلاح الضرر الأيديولوجي الذي لحق بتركيا وخارجها، من جراء حكم أردوغان سيستغرق وقتًا أطول.


المراجع:

  1. Mark Lowen, ‘Istanbul mayoral vote: Is “disastrous” loss beginning of Erdogan’s end?’, BBC News, 24 June 2019.
  2. Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey (1961), p. 241.
  3. Ali Kazancigil and Ergun Ozbudun [eds.], Ataturk: Founder of a Modern State (1981), p. 127.
  4. Ibid, p. 22.
  5. Ibid, p. 110.
  6. Alexandre Barmine, Memoirs of a Soviet Diplomat: Twenty Years in the Service of the U.S.S.R. (1938)
  7. The Emergence of Modern Turkey, pp. 263-80.
  8. Erik Zurcher, Turkey: A Modern History (2004, Third Edition), pp. 183-6.
  9. The Emergence of Modern Turkey, pp. 303, 312.
  10. Samuel Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (1996).
  11. Michael Koplow, ‘Officers and Democrats’, Foreign Affairs, 6 July 2013.
  12. Soner Cagaptay, The New Sultan: Erdogan and the Crisis of Modern Turkey (2017), pp. 34-7.
  13. Ibid, pp. 51-2.
  14. Ibid, pp. 39-51.
  15. Ibid, pp. 38-9.
  16. Ibid, pp. 55-60.
  17. Ibid, pp. 69-76.
  18. Ibid, pp. 77-89.
  19. Dani Rodrik, ‘Plot Against the Generals’, Harvard University, June 2014.
  20. Gareth Jenkins, ‘Between Fact and Fantasy: Turkey’s Ergenekon Investigation’, Central Asia-Caucasus Institute, August 2009.
  21. ‘Turkish court acquits 235 suspects in notorious Ergenekon trial’, A News, 1 July 2019.
  22. Hassan Hassan, ‘Bin Laden journal reveals he was shaped by the Muslim Brotherhood’, The National, 2 November 2017.
  23. The key Qutbist concept adopted by the jihadists is hakimiyya(God’s sovereignty). See: Shiraz Maher, Salafi-Jihadism: The History of an Idea (2016).
  24. Svante Cornell, ‘Erbakan, Kısakürek, and the Mainstreaming of Extremism in Turkey’, Hudson Institute, 4 June 2018.
  25.  
  26.  
  27.  
  28. Yotam Feldner, ‘Muslim Brotherhood TV channels, a hotbed of extremism’, MEMRI, 9 January 2019.
  29. Bayram Balci, ‘Turkey’s Religious Outreach and the Turkic World’, Hudson Institute, 11 March 2014
  30. Gonul Tol, ‘Turkey’s Bid for Religious Leadership’, Foreign Affairs, 10 January 2019.
  31. Bayram Balci, ‘Turkey’s Religious Outreach and the Turkic World’, Hudson Institute, 11 March 2014
  32. Nick Ashdown, ‘Turkmenistan Cracking Down on Gülen Followers’, EurasiaNet, 8 December 2016.
  33. Michael Clarke, ‘Uyghur Militants in Syria: The Turkish Connection’, Jamestown Foundation, 4 February 2016.
  34. Murat Baykara and Tara John, ‘Turkey’s election board orders revote for Istanbul mayor’, CNN, 7 May 2019.
  35. Berk Esen and Sebnem Gumuscu, ‘Rising competitive authoritarianism in Turkey’, Third World Quarterly, 19 February 2016.
  36. ‘“If we lose Istanbul, we lose Turkey”: why the mayoral election is so critical to Erdogan’s hold on power’,The National, 20 June 2019.
  37. ‘CHP’s Imamoglu wins in 28 districts in Istanbul rerun’, Daily Sabah, 23 June 2019.
  38. ‘Journalist Coşkun acquitted of insulting Turkey’s president’, Turkish Minute, 20 June 2019
 
 

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة