الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
الأفارقة ينتفضون ضد الوصاية الأوروبية.. سياقات ورهانات
التحولات الجارية في إفريقيا تعود إلى "تداعيات العولمة"؛ إذ صارت دول إفريقيا تنظر إلى العالم بمنظار مختلف عما كان عليه الأمر في السابق، عندما كانت تنظر إلى العالم من خلال عيون فرنسا أو أوروبا عموماً.

كيوبوست
يفيد العديد من المؤشرات والوقائع أن “إفريقيا اليوم لم تعد إفريقيا الأمس”؛ خصوصاً في علاقات دول القارة السمراء بالقوى الأوروبية، حيث بدأت تظهر ملامح من “التمرد” أو “الانتفاضة” في وجه ما يُسميه البعض “وصاية أوروبية” من جميع النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية على هذه القارة الواعدة.
تتجلى هذه الوقائع المتوالية من خلال طرد (أو انسحاب) القوات العسكرية الفرنسية في كل من مالي وبوركينا فاسو، المعقلَين التاريخيَّين للقوة الفرنسية، وأيضاً رفض مواطني أكثر من بلد إفريقي زيارةَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علاوةً على مطالبة الحكومة التشادية السفيرَ الألماني مغادرة البلاد بسبب “عدم احترامه الممارسات الدبلوماسية”.
اقرأ أيضاً: ماكرون ولافروف… سباق التنافس إلى إفريقيا
مؤشرات “الانتفاضة”
قبل شهور خلت، انسحب آخر جندي فرنسي من دولة مالي؛ لينتهي وجود فرنسا في هذا البلد الإفريقي طيلة 9 سنوات في سياق قوة برخان العسكرية، كما أن وزير خارجية مالي، عبدالله ديوب، سبق له اتهام فرنسا علانيةً بأنها قوَّضت مؤسسات بلده مالي، واتهام “الناتو” بالمساهمة في تمدد الإرهاب في مالي والساحل الإفريقي.
من جهتها؛ انتفضت بوركينا فاسو في وجه فرنسا أيضاً من خلال إعلان وقف العمل باتفاق المساعدة العسكرية الموقَّع منذ سنة 1961 مع فرنسا، كما أن سلطات هذا البلد الإفريقي لم تتردد مؤخراً في طرد صحفيتَين فرنسيتَين تعملان في جريدتَي “لوموند” و”ليبراسيون” الفرنسيتَين، وقبل ذلك تم وقف بث قناة “فرنسا 24.”

أمام هذه الوقائع المتراكمة، وجدت فرنسا نفسها أمام وضع غير مسبوق؛ ما جعلها تحاول تغيير “قواعد اللعبة”، فأعلن ماكرون في زيارة له إلى الغابون أن “فرنسا صارت اليوم محاوراً محايداً في إفريقيا”، وحثَّ على إبرام شراكات جديدة في إفريقيا بعيداً عن “العلاقات المبهمة، ودعم القادة الحاليين”.
من جانبها؛ فاجأت حكومة التشاد ألمانيا بطلب مغادرة كريستيان غوردون كريكه، السفير فوق العادة والمفوض لجمهورية ألمانيا الاتحادية؛ بسبب ما سمته “السلوك الفظّ” و”عدم احترام الممارسات الدبلوماسية”، بينما صرح مصدر حكومي تشادي لـ”فرانس بريس” بأن التشاد غاضبة من السفير الألماني جراء “تدخله المفرط” في شؤون إدارة البلد، فضلاً عن “تصريحاته التي تنحو إلى تقسيم التشاديين”.
اقرأ أيضاً: ماضي إفريقيا ليس مستقبلها.. كيف يمكن للقارة أن ترسم مسارها؟
وتطرقت صحف أوروبية، وفرنسية على وجه الخصوص، إلى هذه التحولات الجارية التي فسَّرتها بأنها تعود إلى “تداعيات العولمة”؛ حيث صارت دول إفريقيا تنظر إلى العالم بمنظار مختلف عما كان عليه الأمر في السابق، عندما كانت تنظر إلى العالم من خلال عيون فرنسا أو أوروبا عموماً.
ووفق هذه الصحف التي تتابع ما يقع بين إفريقيا وأوروبا؛ فإن الدول الأوروبية، وفرنسا تحديداً، لم تعد ذلك الفاعل الحاسم في القارة السمراء؛ بل مجرد فاعل من بين فاعلين آخرين يوجدون في الساحة، صارت لهم قوة ونفوذ وتأثير متزايد على الدول الإفريقية؛ لا سيما الصين وروسيا، وأيضاً تركيا.

مياه تحت الجسر الإفريقي
يقول الدكتور إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية وإدارة الأزمات في جامعة القاضي عياض بمراكش، ضمن تعليق لـ”كيوبوست”: “إن الرفض الإفريقي للوجود الغربي في القارة السمراء يُعزى إلى عدة أسباب؛ منها اقتناع الأفارقة بأن هذا الوجود بذرائع مختلفة وأشكال اقتصادية وسياسية وعسكرية لم يُفضِ إلى إرساء علاقات متوازنة؛ إذ ظلت علاقات مختلة لصالح الطرف الأوروبي الذي ظل ينظر إلى القارة الإفريقية نظرة نمطية لا تخلو من خلفيات استعمارية”.
وأردف لكريني عاملاً آخر يتمثل في جريان مياه كثيرة تحت الجسر الإفريقي؛ من خلال سن إصلاحات سياسية مهمة تم اعتمادها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، الأمر الذي تمخضت عنه مجموعة من المكتسبات السياسية والاقتصادية التي تدعم بناء الدولة في إفريقيا، ما أتاح بروز نخب سياسية واقتصادية إفريقية واعدة تعي حجم الإشكالات والتحديات التي تواجه القارة، وتعي أيضاً أهمية إرساء علاقات متوازنة مع الطرف الأوروبي الذي ما زال يتعامل مع الأفارقة بطريقة لا تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات والتطورات.
اقرأ أيضاً: الحبوب أو الحياد… قادة إفريقيا ومعادلة الحرب وأزمة الغذاء!
من جهة أخرى، يتابع الخبير نفسه: “أسهمت هذه العوامل في نضج خطابات إفريقية في إطار علاقات ثنائية بين الدول الإفريقية، أو في إطار الاتحاد الإفريقي، بضرورة إرساء علاقات متوازنة بين الدول الإفريقية ونظيرتها الأوروبية، وهذا كان موضوع نقاش في مختلف اللقاءات التي جمعت بين الطرفَين بصورة تعكس رغبة الأفارقة في إقامة علاقات منصفة ومتوازنة”.
ولفت لكريني إلى أن “القارة الإفريقية أصبحت قبلة وفضاء لتنافس مجموعة من القوى الإقليمية والدولية، كما هو الشأن بالنسبة إلى روسيا والصين وأمريكا وتركيا وغيرها من البلدان، بالإضافة إلى كون العلاقات الإفريقية تطورت في الفترة الأخيرة في إطار علاقات جنوب جنوب، وخير مثال العلاقات المغربية الإفريقية في هذا الباب”.

واستطرد المحلل: “جميع هذه العوامل جعلت الأفارقة يجدون خيارات أخرى لا تحمل خلفيات استعمارية؛ مثل الصين التي توظف القوة الناعمة، خصوصاً الاقتصاد، في تطوير علاقاتها مع دول العالم، وكذلك مجموعة من الدول الأخرى التي أصبحت تقدم فرصاً وعروضاً ومشروعات أفضل من الأوروبيين؛ وهو ما دفع عدداً من الدول الإفريقية إلى التعبير عن رفضها المتزايد للوجود العسكري الأوروبي في إفريقيا، الذي عمَّق المشكلات وعقَّد الأوضاع أكثر مما أسهم في حلها؛ بل تورط أحياناً في دعم بعض النظم المستبدة داخل القارة”.
وخلص لكريني إلى أنه “لا يمكن الحديث عن مستقبل العلاقات الإفريقية- الأوروبية إلا في سياق استيعاب الأوروبيين التطورات والتحولات التي شهدها العالم بشكلٍ عام، وأيضاً وجود منافسين لدول القارة العجوز داخل إفريقيا”، مبرزاً أن “هذه التحولات تتطلب تجاوز التعامل الأوروبي الفوقي الذي ينهل من خلفيات استعمارية”.
مستقبل العالم

من جانبه؛ يرى الدكتور زهير العميم، الأستاذ بجامعة مراكش، في تعليق لـ”كيوبوست”، أن ما تشهده العلاقات الأورو- إفريقية من مدٍّ وجزر لا يمكن فهمه إلا ضمن سياق الصراع الجيوستراتيجي حول قارة واعدة بين قوى دولية متعددة تحاول أن تجد لها موطئ قدم في هذه القارة التي لها من المقدرات ما جعلها منطقة جاذبة مؤهلة للاستثمار والتنمية وتحقيق السيادة الاقتصادية وتجاوز كل معيقات التنمية.
ووَفق العميم، إذا كانت “النظرية الماكندرية” -نسبةً إلى العالم الجغرافي هالفورد ماكندر Mckinder، أحد مؤسسي الجيوبوليتك- تعتبر أن التحكم في منطقة أوراسيا هو تحكم في قلب العالم؛ فإن العالم اليوم أصبح أكثر اقتناعاً بأن القارة الإفريقية تشكِّل مستقبلاً للعالم، نظراً لما تمتلكه من ثروات بشرية وطاقية ومعدنية وفلاحية.
اقرأ أيضاً: ماذا سرقت أوروبا من إفريقيا؟
وأردف العميم بأن “ما يسِم القارة الأوروبية تجاه الدول الإفريقية أنها حبيسة تاريخ ماضوي؛ فهي دائماً تنظر إلى القارة السمراء على أنها امتداد لها، وتنظر إليها انطلاقاً من الإرث الكولونيالي السابق، وتنسى أن منطق العلاقات الدولية اليوم يرتبط بتبادل المصالح وَفق مقاربة “رابح رابح”؛ لكن المقاربة الأوروبية ظلت مقاربة انتهازية تعمل على خدمة مصالحها الضيقة من جانب واحد”.
واسترسل المحلل بالقول: “هناك وعي لدى النخبة السياسية الإفريقية أن هذا المنطق البراغماتي أحادي الجانب لم يعد قابلاً للاستمرارية؛ فإما علاقات شراكة واعدة وتبادل للمصالح، وإما الانتفاضة ومناهضة التعامل الأوروبي الذي لم يبرح ذلك المنطق الماضوي، وهذا تجلى في تمرد بلدان إفريقية على قوى أوروبية، وبداية التنسيق مع قوى جديدة تعرف منطق العلاقات الدولية الناجحة”.

وفي هذا السياق؛ يمكن استحضار تبادل الاتهامات بين القادة الأوروبيين، مثل اتهام إيطاليا لفرنسا والدول الأوروبية كونها المسؤولة عما تشهده إفريقيا من هشاشة سياسية وأمنية واقتصادية، وأنها المسؤولة عن هجرة الأفارقة، وبالتالي عليها أن تدعم مجهودات الدول الإفريقية، كما اعتبرت أن فرنسا لو لم تستغل ثروات القارة السمراء لكانت القوة الاقتصادية رقم 15 وليست القوة الرابعة كما هي عليه الآن.
وذهب العميم إلى أن “هذه الوصاية الأوروبية على الدول الإفريقية لا يمكن الخروج منها إلا بإرساء الديمقراطية فيها، وتفادي الأنظمة الاستبدادية الشمولية التي تتغذى على القوة الأوروبية شكلاً ومضموناً، كما هو الشأن بالنسبة إلى فرنسا التي كانت تسعى دائماً إلى قلب الأنظمة المناوئة لمصالحها”، لافتاً إلى أن “هذا أمر ممكن؛ شريطة استثمار الإمكانات الإفريقية الهائلة لفائدة الأفارقة أنفسهم، وتحقيق تنمية قارية، ما يقتضي إرساء شراكات بين الدول الإفريقية، والاقتناع بأنه لا يمكن لغير الأفارقة أن يؤسسوا لقارة إفريقية تنشد التنمية والسلام”.