الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
الأبوة والأمومة أمر ممتع.. ولكنه لا يجعلنا أكثر سعادة!

كيوبوست- ترجمات
إيما دونكن
غالباً ما يترك خروج آخر الأبناء من المنزل شعوراً كبيراً بالفراغ لدى الأهل. وفي مقالٍ لها نشرته صحيفة “ذا تايمز”، تصف إيما دونكن تجربتها الشخصية مع هذا الفراغ. تقول دونكن: “عندما استيقظتُ في اليوم التالي لمغادرة ابنتي، استلقيتُ في سريري أفكر في التناقض بين اليوم الفارغ والانشغال والصخب طوال ثلاثين عاماً من تربية الأطفال. ما فاجأني هو أنني لم أكن أشعر بالحزن، بل بنوعٍ من الرضى.
بعد شيءٍ من البحث، اكتشفت أن رد فعلي على مغادرة طفلي الأخير لم يكن نادراً. وجد أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد دانييل جيلبرت أن العَرَض الوحيد “لمتلازمة الحياة الفارغة” هو “الابتسام”. وسبب ذلك هو أن الأهل يشعرون بالرضا بعد مغادرة أولادهم، لأنهم يتوقفون عن ضرب رؤوسهم بجدارٍ من الطوب”.
يحتفل مجتمعنا بالأبوة والأمومة باعتبارها التجربة الأكثر إرضاءً التي تقدمها الحياة. ويقول معظم الآباء إن الإنجاب كان أهم شيء قاموا به في حياتهم، وأكبر مصدر لسعادتهم. ويتكرر هذا الفرح ويتضاعف مرة أخرى عند مجيء الأحفاد. ولكن من حُرموا من الأولاد يعانون ليس فقط لأنهم فقدوا هذه السعادة، بل لأن المجتمع يكرم الآباء، ويقدس علاقة الأم والطفل. حتى وسائل الإعلام تمنح الآباء نوعاً من الاحترام الخاص، فكثيراً ما تطالعنا عناوين مثل “قتلت الأم بشكل مروع” أو “تلقى فلان، وهو أب لثلاثة أطفال، حكماً بالسجن لخمس سنوات”، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأن معاناة الوالدين هي أكثر أهمية.
اقرأ أيضًا: «إطلاق الروح البرية للمرأة».. الأمومة روح العالم
تقول دونكن: “لقد اعتدتُ أن أعتبر هذا التحيز واحداً من العديد من مظاهر الظلم في الحياة. لكنني الآن أراه بشكلٍ مختلف. أظن أن المجتمع يكرم الآباء لتشجيع الناس على فعل شيء يريده المجتمع، ولكنه ليس بالضرورة في دائرة اهتماماتهم”.
ربما يجلب الأطفال الفرحَ لوالديهم، ولكنهم لا يجلبون لهم السعادة. وقد وجدتِ العديد من الدراسات أن الآباء كانوا أقل سعادة ممن لم ينجبوا. وربما يمكن تفسير ذلك بأن رعاية الأطفال ليست ممتعة بحدِّ ذاتها، حيث وجدت دراسة شملت 909 امرأة أن معظمهن يفضلن الأعمال المنزلية من غسيلٍ وطهي على رعاية الأطفال. ولكن هل كان الأمر كذلك في الماضي؟ لا أحد يعرف.
فالأمهات لم يكن لديهن خيار. كان الأولاد ضرورة، ولكن الأمر اختلف اليوم، وربما هذا ما أدى إلى صدام بين الحداثة وتربية الأطفال.

ترى دونكن أن النظرة إلى الأطفال كمصدر للرضا العاطفي هي فكرة جديدة. في الماضي كان الأطفال يوفرون العمالة، وإذا نظرت إلى الأسرة كوحدة اقتصادية، فقد كان الأطفال مصدراً للدخل لا للتكلفة. ولكن مع انتقال الناس للمدن والقوانين التي تفرض تعليم الأولاد انعكستِ الآية، وتوقف الأطفال عن كونهم منتجين، وأصبحوا يستنزفون موارد الأسرة. ونظراً لأن الأطفال لم يعودوا ضرورة، فقد أصبحت الأبوة خياراً لأسلوب الحياة. والذين ينجبون أطفالاً يعتقدون أن ذلك سيمنحهم السعادة، فالطفل الحديث الولادة “عديم الفائدة اقتصادياً، ولكنه لا يقدر بثمن عاطفياً”.
تعتقد كاتبة المقال أن هذا الأمر هو مقدمة لخيبة الأمل. فعندما كان الأولاد يقدمون فائدة اقتصادية، لم يكن الناس يتوقعون أن تكون الأبوة مصدراً للسعادة. بينما يتوقع آباء اليوم حياة مليئة بالحب، ولكنهم يجدون أن لحظات الحب والحنان تفوقها ساعات من الملل والتعب والتوتر.
اقرأ أيضًا: المرأة في المنظومة الأبوية للأديان التوحيدية
ويرجع السبب في ذلك إلى تغير طبيعة العمل عموماً. ففي الماضي كان إعدادُ الطفل لسوق العمل أمراً في غاية البساطة، فإذا كنتَ عامل منجم أو مزارعاً فعلى الأرجح أن ابنك سيكون كذلك، وابنتك ستكون زوجة لعامل منجم أو لمزارع، ومن خلال مساعدتهم لآبائهم سوف يتعلم الأطفال ما يحتاجونه لحياتهم المستقبلية.
ولكن الواقع اليومَ تغير كثيراً، فالأعمال اليدوية تراجعت، كما أن سوق العمل أصبحت أكثر تنافسية، فالناس اليوم لا يتنافسون على الوظائف مع جيرانهم، بل ربما مع أشخاص في مومباي أو بكين. وبما أن معظم الوظائف عالية الأجر تعتمد على العمل العقلي، أصبح من الضروري توفير التعليم الجيِّد للأولاد، وهذا ما يعني المزيد من الأعباء على الوالدين.

ولكن الأمر لا يقتصر على تأمين مستقبل الأولاد المهني، فقد قلبت الثورة الاجتماعية في الستينيات المواقف تجاه الأبوة والأمومة، وأصبح الآباء مطالبين بالاستماع إلى أولادهم، وهم مسؤولون عن رعاية احتياجاتهم العاطفية، بقدر مسؤوليتهم عن احتياجاتهم المادية، وأصبح مطلوباً منهم الاهتمام بسعادتهم بقدر اهتمامهم بتربيتهم.
وسواء كان الهدف هو النجاح المهني أو السعادة، فالآباء يكرِّسون وقتاً لأولادهم أكثر بكثير مما كان آباؤهم يفعلون. ففي بريطانيا مثلاً كانت الأمهات يقضين نحو نصف ساعة يومياً مع أطفالهن في عام 1965، وبحلول عام 2012 تضاعف هذا الوقت خمس مرات، على الرغم من دخول المزيد من النساء سوق العمل، الأمر الذي يعني المزيد من الإرهاق لهن.
وعلى الرغم من ذلك، تقع معظم مسؤوليات تربية الأولاد على الأمهات. وأحياناً تتخلى بعض الأمهات عن العمل لتخفيف هذه الضغوط، ولكن ذلك يخلق مشكلاتٍ جديدة، ليس أقلها المشاكل المالية. فالأم العاملة عندما تترك عملها قد تصاب بالملل الشديد والإحباط.
اقرا أيضاً: كيف يمكن استغلالك عاطفياً؟
وتختم دونكن مقالها بالإشارة إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه الحكومات في تخفيف حدة التوتر بين الأبوة والعمل. ففي البلدان التي تساهم فيها الدولة بشكلٍ أكبر في رعاية الأطفال تصغر الفجوة بين الأبوة والسعادة. فقد أشارت دراسات متعددة إلى أن السياسات الأسرية الأكثر سخاءً تتيح أبوة أكثر سعادة. والصدام بين الحداثة وتربية الأطفال ينعكس مباشرة على انهيار معدل الولادات. ففي كوريا الجنوبية، مثلاً، تشتد المنافسة على سوق العمل، الأمر الذي يعني إنفاق المزيد من الأموال على تعليم الأطفال، انخفض معدل الخصوبة من أكثر من ستة مواليد لكل امرأة عام 1960، إلى أقل من ولد واحد اليوم. أما فرنسا -وهي البلد الأوروبي الأكثر سخاءً مع الأهل- فتتمتع بأعلى مستوى من الخصوبة في أوروبا.
ولا شك في أن جعل حياة الآباء أسهل ليس من شأنه أن يحسِّن الحاضر فقط، بل والمستقبل أيضاً. فالآباء السعيدون يربون أطفالاً سعيدين. وعندما نفكر كمجتمع فيما يجب أن ننفق مواردنا عليه، ربما سنجد أن نظام رعاية الطفل الجيد هو أفضل استثمار يمكن أن نقوم به.
المصدر: ذا تايم