الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون دولية
اقتحام الباستيل.. وقود الثورة الفرنسية

كيوبوست- مدى شلبك
بعض الأحداث في التاريخ، غيَّرت مجراه وانعطفت به إلى واقع جديد؛ ولعل أحدها اقتحام سجن الباستيل في باريس في 14 يوليو عام 1789م، والذي كان بمثابة وقود للثورة الفرنسية ومؤشر لنهاية النظام الملكي الباروني الاستبدادي؛ لذلك تقرر اعتماده رسمياً يوماً وطنياً في فرنسا “la fête nationale” في عام 1880م.
ويجري الاحتفال بيوم اقتحام الباستيل في فرنسا ضمن مظاهر احتفالية متنوعة؛ إذ يتم إلقاء الخطب وتنظيم العروض العسكرية والجوية وإطلاق الألعاب النارية في سياق الاحتفالات العامة، علماً بأن الاحتفال بذلك اليوم يتجاوز فرنسا جغرافياً، فيحتفل به بعض سكان المناطق التي كانت يوماً خاضعة للاستعمار الفرنسي. وغالباً ما يُرفع شعار “Vive le 14 juillet!” (يحيا 14 يوليو!) خلال يوم الباستيل؛ نظراً لتأثيره في التاريخ الفرنسي، فماذا حدث في ذلك اليوم؟ وماذا نتج عنه؟
اقرأ أيضاً: الذكرى الستون لمجزرة 17 أكتوبر في باريس.. الحكاية التي لم تُروَ بعد!
ظروف ممهدة
كغيره من الأحداث، لم يأتِ اقتحام سجن الباستيل من العدم؛ بل مهدت سلسلة من الظروف إليه، ففي أواخر القرن الثامن عشر، كانت فرنسا منهكة اقتصادياً لسنوات؛ نتيجة لانخراطها في الثورة الأمريكية ضد الإنجليز، في الوقت الذي شهدت فيه البلاد عقدَين من تلف المحاصيل والجفاف وأمراض الماشية وارتفاع أسعار الخبز.
بينما كان ردّ النظام للتعامل مع الضائقة الاقتصادية وتبعاتها، أن فرض ضرائب باهظة على السكان، فما كان منهم إلا أن رفضوا الوضع القائم عبر أعمال شغب وإضرابات، ومع أنه جرى اقتراح إصلاحات مالية من قِبل المراقب العام؛ “تشارلز ألكسندر دي كالون” عام 1786م، تضمنت ضريبة أراضٍ شملت الجميع؛ بمَن فيهم أفراد الطبقات المتنفذة، إلا أن الأمور سارت باتجاه الثورة، تحديداً بعدما انعقد اجتماع مجلس الطبقات (العقارات العامة) عام 1789م، والذي يضم ممثلين عن طبقة رجال الدين وطبقة النبلاء وطبقة عامة الشعب، علماً بأن الاجتماع كان قد عُقد آخر مرة عام 1614م، وما تمخض عنه من انفصال للطبقة الثالثة التي كانت تمثل 98% من الشعب الفرنسي، عن المجلس، مشكلةً “الجمعية الوطنية”.

ومن الأحداث السياسية التي أسهمت في اقتحام الباستيل الذي بُني كحصن خلال القرون الوسطى، لحماية باريس من الهجوم الإنجليزي، لكنه استخدم خلال القرن السابع عشر كسجن، إقالة الملك لويس السادس عشر، لوزير المالية، آنذاك، “جاك نيكر”، من منصبه، فقد كان نيكر رجلاً مؤمناً بالتنوير، وقد اقترح برنامجاً منطقياً من الإصلاحات الاجتماعية والدستورية؛ لكن تم تجاهله.
وكان سجن الباستيل يحمل رمزية خاصة، متمثلة في بطش وقسوة النظام الملكي، فقد كان سجناً يُحتجز به معتقلون سياسيون بأمر مباشر من الملك، إلى جانب سجناء آخرين، بينما لم تكن الأحكام الصادرة بحق معتقلي الباستيل قابلة للاستئناف.
اقرأ أيضاً: “المقاهي”.. تاريخ أثرى الحياة السياسية والفكرية في أوروبا
اقتحام الباستيل
وفي فجر يوم 14 يوليو من عام 1789م، اتجه حشد غاضب نحو سجن الباستيل، الذي كان قد تم تحصينه حينها بتعزيزات بطلب من الحاكم العسكري للسجن “برنار رينيه جوردان دي لوناي”؛ تحسباً لأي هجوم متوقع من قِبل الثوار، عقب اندلاع الثورة بتاريخ 5 مايو من نفس العام، واندلاع أعمال شغب سبقت الاقتحام.
وتجمع الحشد المسلح بالبنادق والسيوف والأسلحة البدائية حول الباستيل، الذي كان مزوداً بـ250 برميلاً من البارود وعشرات الجنود، إضافة إلى الرجال العاملين في السجن، ومع تزايد عدد الباريسيين المنضمين إلى الحشد، مالت الكفة لصالح الثوار؛ ما دفع لوناي لرفع علم أبيض كدليل على استسلامه، الأمر الذي لم يشفع له، فقد تم اعتقاله ورجاله، وبدلاً من محاكمته من قِبل مجلس ثوري في ما بعد، تم جره وقتله من قِبل جماهير غاضبة.

وبعد اقتحام الباستيل وسقوط قتلى، تم الاستيلاء على البارود والمدافع فيه، كما أطلق سراح سجنائه الذين كان عددهم سبعة فقط، فمع نهاية القرن الثامن عشر كان الباستيل قد فقد ثقله وكان من المقرر هدمه، إلا أن رمزيته دفعت الثوار لاقتحامه. أما المحتجزون فكانوا أربعة مزورين، ومجنوناً أيرلندياً، وشاباً أرستقراطياً منحرفاً سُجن بأمر من عائلته، ورجلاً تآمر لاغتيال لويس الخامس عشر من فرنسا قبل أكثر من 30 عاماً.
نتائج اقتحام الباستيل
تمخض عن اقتحام الباستيل نتائج تزامنت مع الحدث؛ فقد أثبت الاقتحام أن سلطة الملك باتت مهددة، وعليه هرب رجال من أصحاب المناصب؛ وكان أولهم الكونت دارتوا، وبعد أيام جرت أعمال عنيفة كقتل شخصيات سياسية؛ منها مراقب باريس “لبيرتيير دي ساوفيجناي”، وأحد الوزراء “فولون” وغيرهما…
اقرأ أيضاً: لاقى سخطاً في البداية.. برج إيفل أهم معالم باريس
كما تقرر هدم الباستيل على يد 1000 عامل؛ خشية استعادته من قِبل القوات الملكية، وفي 14 يوليو 1790م، تم الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للاقتحام في جميع أنحاء البلاد، مع احتفال ضخم أُقيم في المكان الذي كان سجن الباستيل قائماً فيه، تكريماً للثورة، وولادة الديمقراطية في البلاد.

ومن أهم النتائج الناجمة عن اقتحام الباستيل والتي جاءت بعد سنوات، مع اشتعال الثورة وتمددها تحت شعار “إخاء حرية مساواة”، أن أُلغي النظام الملكي في عام 1792م، وحكم على لويس السادس عشر وزوجته “ماري أنطوانيت” بالإعدام بتهمة الخيانة في عام 1793م.
كانت الثورة الفرنسية بمثابة مخاض مؤلم نتج عنه أعمال عنف دامية ودفعت فرنسا ثمنه، إلا أنها كانت حجر الأساس لتدشين الديمقراطية والحرية والعلمانية، ليس في فرنسا فقط إنما في أوروبا في ما بعد.