الواجهة الرئيسيةترجمات
اعتبارات حقوق الإنسان في ضوء نداء كرايستشيرش لمكافحة الإرهاب والتطرف عبر الإنترنت

كيوبوست-ترجمات
د. ريتشارد بورشيل♦
في 15 مارس 2019، أطلقت رئيسةُ وزراء نيوزيلندا، جاسيندا آرديرن، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، “نداء كرايستشيرش” للقضاء على المحتوى الإرهابي والمتطرف العنيف على الإنترنت(1). يأتي نداء كرايستشيرش ردًّا مباشرًا على الهجمات العنيفة التي وقعت في كرايستشيرش في وقت سابق من العام. والجدير بالذكر، أن الجاني قد بثّ الهجومَ مباشرة عبر الشبكة العنكبوتية والذي ظهر أنه ناشط من خلالها للتعبير عن آرائه، مما دفع كثيرًا من المحللين إلى القول بأن الهجوم كان يستهدف استغلالَ وسائل التواصل الاجتماعية.
وقّعت على هذا النداء 17 حكومة، والمفوضية الأوروبية، وثماني شركات من مقدمي الخدمات عبر الإنترنت، بما في ذلك “فيسبوك”، و”جوجل”، و”تويتر”.
يمكن القول إن نداء كرايستشيرش هو تطور إيجابي، حيث يجمع بين الشركات الخاصة والحكومات والجمهور لمناقشة استخدام الخدمات إلكترونية لنشر المحتوى الإرهابي والمتطرف. وهو أمر مرحب به أيضًا كونه يواصل النقاشَ حول دور مقدمي الخدمات عبر الإنترنت ومسؤولياتهم في هذا المجال. وتعود أهميته أيضًا إلى حقيقة أنه يتيح فرصةَ لإجراء المزيد من المناقشات والحوارات المفتوحة بشأن ماهية التطرف، وكيف ينبغي عدم استخدام الادعاءات المتعلقة بأهمية حرية التعبير في ممارسة التمييز والحط من قدر الآخرين، من خلال حرمان الإنسان من كرامته، وهو ملمحٌ مشترك بين الأيديولوجيات المتطرفة.
اقرأ أيضًا: بلادي حزينة.. لكنها تبحث عن إجابات.
يهدف نداءُ كرايستشيرتش إلى تسريع وتيرة الجهود الرامية إلى منع نشر المحتوى الإرهابي والمتطرف على الإنترنت وتضخيمه. كما يمثل هذا النداء تطورًا مهمًا لأنه بيان عام وافقت عليه حكومات ومقدمو الخدمات، والمجتمع المدني. إن التعاون وتضافر الجهود أمران ضروريان للتعامل مع المحتوى المتطرف عبر الإنترنت، ويوفر نداء كرايستشيرش الأسسَ لإيجاد أساليب جديدة للتعامل مع استخدام الخدمات عبر الإنترنت لنشر المحتوى الإرهابي والمتطرف. وتجدر الإشارة إلى أنه لا تترتب على هذا النداء أي التزامات قانونية على الدول أو مقدمي الخدمات عبر الإنترنت، غير أنه يضع إطارًا “للالتزامات الجماعية والطوعية من جانب الحكومات ومقدمي الخدمات عبر الإنترنت الرامية إلى مجابهة قضية المحتوى الإرهابي والمتطرف العنيف عبر الإنترنت”.
بموجبِ هذا النداء، تلتزم الحكوماتُ ببذل المزيد من الجهود لمواجهة دوافع الإرهاب والتطرف العنيف، وتعزيز القدرة على الصمود في المجتمع، ومقاومة التطرف من خلال التعليم والتثقيف، وضمان إنفاذ القوانين المعمول بها بفعالية، وتشجيع وسائل الإعلام لمنع تضخيم المحتوى الإرهابي والمتطرف، ودعم الأطر التي تستخدمها الشركات للحد من تضخيم هذا المحتوى. وتلتزم الحكومات باتخاذ المزيد من التدابير بغية تعزيز قدرة مقدمي الخدمات الأصغر عبر الإنترنت لمنع نشر المحتوى الإرهابي والمتطرف.
علاوة على ذلك، يلتزم مقدمو الخدمات عبر الإنترنت بمجموعة من التدابير المتعلقة بتحميل المواد المتطرفة ونشر هذه المواد وتضخيمها. ولتحقيق هذا الهدف، أولى النداء أهميةً إلى اتخاذ تدابير أكثر شفافية لمنع تحميل المحتوى الإرهابي والمتطرف إلى جانب إشعارات تحذيرية وإجراءات حجب فعالة. إضافة إلى ذلك، يلتزم مقدمو الخدمات عبر الإنترنت بتطوير معايير مجتمعية بشأن استخدام المحتوى الإرهابي والمتطرف ونشره، وتوضيح السياسات المتعلقة بكشف هذا المحتوي وإزالته، والقيام فعلًا بإنفاذ المعايير التي يطورها مقدمو الخدمات. كما يلتزم مقدمو الخدمات عبر الإنترنت أيضًا بالتدابير التي من شأنها منع البث المباشر للمحتوى الإرهابي والمتطرف، وتقديم مزيد من التقارير للرأي العام عن كشف المحتوى الإرهابي والمتطرف وإزالته، وتحسين الخوارزميات التي تسهم في تضخيم هذا المحتوى.
تلتزم الحكومات ومقدمو الخدمات باتخاذ تدابير متعددة لتعزيز النداء الذي يركز على مساهمات المجتمع المدني ودوره. وتشمل هذه الأنشطة العمل مع جماعات المجتمع المدني لتعزيز رسائل ايجابية بديلة لرسائل الإرهاب والتطرف، وتطوير تدخلات فعالة، ووضع حلول تقنية لمنع نشر المحتوى الإرهابي والمتطرف ودعم المزيد من البحوث حول القضايا المثارة في النداء. كما يحتوي النداء أيضًا على التزام بزيادة التعاون بين الدول وفيما بين وكالات إنفاذ القانون، ودعم المنصات الصغيرة لبناء القدرات، والتعاون بين الدول من أجل تطوير الممارسات الفضلى، والاستجابات السريعة الفعالة من خلال زيادة تبادل المعلومات. ويختتم النداء بالتزام نهائي “بتطوير مجموعة من المبادرات العملية وغير المزدوجة ودعمها بغية ضمان تنفيذ هذا التعهد”.
اقرأ أيضًا: توابع المذبحة .. نيوزيلندا تتغير والمزيد من المحاذير على اقتناء الأسلحة!
كما تأتي أهمية هذا النداء، أيضًا، من الالتزام العلني من الدول ومقدمي الخدمات الكترونية باتخاذ مزيد من الإجراءات الجماعية فيما يتعلق بمكافحة المحتوى الإرهابي والمتطرف. إذ يقرّ النداء بأهمية “الحاجة إلى العمل وتعزيز التعاون بين المجموعة الواسعة من الجهات الفاعلة التي لها تأثير على هذه القضية”. أحد المجالات التي ستستفيد من تعزيز التعاون، عبر مجموعة الجهات الفاعلة، هي النقاش والحوار بشأن دور معايير حقوق الإنسان في الجهود الرامية إلى منع نشر المحتوى الإرهابي والمتطرف. يضع النداء نفسه ضمن إطار لحقوق الإنسان ينص على أن “كافة الإجراءات المتعلقة بهذه القضية يجب أن تكون متسقة مع مبادئ الإنترنت الحر والمفتوح والآمن، دون المساس بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير”. وكما هو شائع عند مناقشه القيود المفروضة على المحتوى عبر الإنترنت، هناك قدر كبير من الاهتمام بالكيفية التي ستؤثر بها التدابير على حرية التعبير.
يولي نداء كرايستشيرش اهتمامًا خاصًا بالتأثير المحتمل على حرية التعبير الذي قد يترتب على الإجراءات التي تحد من مثل هذا المحتوى عبر الإنترنت. الحفاظ على حرية التعبير تحتل مكانة بارزة في الأهداف العامة للنداء، ويُثار فيما يتعلق بإنفاذ القوانين والأنظمة والتدابير الخاصة بالسياسات والمعايير المجتمعية والخاصة بالشركات، وفيما يتعلق بتدابير التعاون الوطني الرامية إلى منع تحميل المحتويات الإرهابية والمتطرفة أو نشرها أو تضخيمها.
وعند دراسة خيارات السياسة العامة المتاحة لمجابهة المحتوى المتطرف بأي شكل من الأشكال، فإن حرية التعبير أو، في بعض الحالات، حرية الدين، تُعطى الأسبقية، وتحظى الاعتبارات المتعلقة بالإنترنت المفتوح بمزيد من التركيز. غير أن الشيء الغائب هنا هو التركيز على الكيفية التي يمكن أن تستغل بها حرية التعبير لحرمان الآخرين من الحريات الأساسية، لا سيما الحق في الكرامة الإنسانية(2).
إن احترام الكرامة الإنسانية، دون تمييز، عنصر أساسي لجميع قواعد حقوق الإنسان، والأساس الذي تنبثق منه جميع حقوق الإنسان الأخرى. احترام الكرامة الإنسانية ليس أمرًا صعبًا؛ لأنه يدعو للاعتراف بأن لدى جميع البشر الآخرين قيمة أخلاقية متأصلة ينبغي احترامها بشكل متبادل(3).
هذه حجةٌ أخلاقية يعززها الإطار الدولي لحقوق الإنسان بطرق عدة(4). منع التمييز أمر أساسي لحماية حقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، هناك نصوص تمنع استخدام الحقوق المنصوص عليها لحرمان الآخرين من حقوقهم. وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن أيًا من الحقوق المنصوص عليها في الوثيقة لا يسمح بأي نشاط “يهدف إلى إهدار” أي من الحقوق الأخرى الواردة في الوثيقة. وينص الميثاقان الدوليان اللذان دخلا حيّز النفاذ في فترة السبعينيات على أنه لا يوجد في هذه المواثيق ما يمكن تفسيره على أنه يسمح بأي نشاط “يهدف إلى إهدار” أي من الحقوق الأخرى المنصوص عليها في الميثاقين. وإلى جانب المواد المتعلقة بهذا الأمر، حرية التعبير الواردة في الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يجب أن تُمارس بمسؤولية واحترام لحقوق الآخرين.
وعند العمل للحد من نشر المحتوى الإرهابي والمتطرف عبر الإنترنت وتضخيمه، يجب احترام حرية التعبير، ولكن يجب أيضًا احترام الكرامة الإنسانية للآخرين. إن الحرمان من الكرامة الإنسانية عامل مشترك بين الأيديولوجيات المتطرفة، بصرف النظر عن مصدرها. وقد عبّر مهاجم كرايستشيرش عن وجهة نظر تفوق البيض التي تنكر القيمة والكرامة الإنسانية المتساوية لجميع الأفراد أو الجماعات من غير البيض. كما أن الأيديولوجيات الدينية المتطرفة القائمة على الدين، مثل تلك الخاصة بتنظيم داعش، ستقدم مبررات التمييز والعنف تجاه من يُرى، في نظرها، أنهم ليسوا مؤمنين حقيقيين، ومن ثم فإنهم يعتبرون، في نظر المتطرفين، لا يتمتعون بقيمةٍ أخلاقية متساوية كبشر.
وهكذا، يُعد هذا إنكارًا واضحًا للكرامة الإنسانية، ولا يمكن قبوله كنتيجة فرعية حتمية مترتبة على حرية التعبير أو الإنترنت المفتوح. ورغم أن التعبير الحر عن الأفكار والآراء أمر أساسي لأي مجتمع، فإن الاعتراف المتبادل بالكرامة الإنسانية دون تمييز أمر ضروري بالقدر ذاته. وفي حالة وجود ادعاءات متنافسة بشأن حقوق الإنسان، ينبغي إيلاء الكرامة الإنسانية أهمية أكبر. ويبدو أن نداء كرايستشيرش يدرك هذا لأن الحكومات ومقدمي الخدمات على الإنترنت يدركون الحاجة إلى تجنب “المساهمة في الآثار السلبية على حقوق الإنسان”. ويُؤمل أن يعني ذلك أن الاعترافَ بدعم حق من حقوق الإنسان لا يجب أن يؤدي إلى حرمان الأشخاص من الكرامة الإنسانية.
اقرأ أيضًا: “مذبحة نيوزيلندا”.. اليمين المتطرف يخضب صعوده بدماء المصلّين.
نداء كرايستشيرتش يضع نفسَه في سياق حقوق الإنسان الدولية، فضلًا على الأمن البشري. ذلك أنه يدرك أن نشر المحتوى المتطرف يمكن أن يؤثر سلبًا على حقوق الإنسان، وأن نشره له آثار سلبية على الضحايا وعلى الأمن العالمي. وإذا كان الحرمان الكامل من حرية التعبير لن يفيد، ولن يدعم الأمن، فإن الأمر ذاته ينسحب على التهاون مع إنكار الكرامة الإنسانية. إذ لا يمكن السماح للمتطرفين بالاستفادة من حقوق الإنسان بينما يحرمون الآخرين من حقوق الإنسان.
المصدر: عين أوربية على التطرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
♦مدير البحوث في مركز تريندز
المراجع:
[1] The full text of the Christchurch Call is available at https://www.christchurchcall.com/ .
[2] Jeremy Waldron, The Harm in Hate Speech (Cambridge: Harvard University Press, 2014).
[3] Stephen Darwall, “Equal Dignity and Rights” in R. Debes, ed., Dignity: A History (Oxford: Oxford University Press, 2017) p. 186.
[4] See UN Human Rights Council, “Report of the Special Rapporteur in the Field of Cultural Rights, UN Doc. A/HRC/34/56 (16 January 2017), paras. 50-52.