الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

ابن عابدين الدمشقي… جوهرة الفقه ومُغني المكتبة الإسلامية

كيوبوست- زيد قطريب

فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، وُلد في دمشق سنة 1198 هجرية. حفظ القرآن وتعلم أحكام القراءة والتجويد مبكراً، وتمكّن لاحقاً من إثراء المكتبة الإسلامية بالكثير من المصنفات والمؤلفات التي امتازت بالبحث الدقيق والعلم الغزير. اشتُهر بابن عابدين الدمشقي، نسبة إلى جدّه محمد صلاح الدين الذي حمل اللقب لصلاحه وتفانيه في خدمة العلم. والده محمد أمين، من ذرية الحافظ محمد عبد الحي الداودي صاحب المؤلفات الشهيرة.

لم يكن محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، المعروف بابن عابدين الدمشقي، يدرك أن إنكار أحد الصالحين عليه قراءة القرآن في محل أبيه التاجر، بينما كانت الناسُ مشغولة عن الاستماع، وقراءتُه مليئة باللحن، سيشكل حافزاً لجعله من علماء المسلمين المؤثرين، فقد سأل عن أفضل العلماء في تعليم أحكام القراءة والتجويد وعلوم الدين. وتتلمذ على يد الشيخ سعيد الحموي، وحفظ الجذرية والشاطبية، وأحكام النحو والصرف، وفقه الإمام الشافعي.

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي في السعودية بين السلفية والإخوان

وكان للشيخ محمد السالمي العامري العقاد، تأثيرٌ كبيرٌ في فكر ابن عابدين وصقل علمه. فقد أشار عليه بالتفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة، فقرأ أصول الفقه والأصول في هذا المذهب، فنبغ في العلوم الدينية حتى أصبح علاّمةً في زمانه. ثم رحل إلى مصر، وأخذ عن الشيخ أمير المصري، وقد أجازه محدث الديار الشامية الشيخ محمد الكزبري، وظلَّ مجداً في نشر العلم والتصنيف، حتى أخذ عنه الكثير من العلماء الأجلاء، ومنهم الشيخ عبد الغني الميداني، والشيخ حسن البيطار، وأحمد أفندي الإسلامبولي.

يقول الدكتور عبد اللطيف الفرفور في كتابه “ابن عابدين وأثره في الفقه الإسلامي”: “ابن عابدين من أكبر الشخصيات العلمية في عصره، وأعظمها تأثيراً وأبعدها غوراً، بل ربما من أعظم الشخصيات العلمية في الاجتهاد المذهبي ذات الأثر العميق الجديرة بالدراسة المستوعبة، وحسبك على ذلك دليلاً أنه عُرف بين معاصريه، ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا، بفقيه النفس، وهو لقب علمي كبير قلّ بعد عصر الأئمة من وصل إليه”.

من مؤلفات ابن عابدين

أنجز ابن عابدين الدمشقي الكثير من المؤلفات التي أثْرَت المكتبة الإسلامية، منها: (رد المحتار على الدر المختار) خمسة مجلدات، فقه، يعرف بحاشية ابن عابدين، و(رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار)، و(العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية) جزآن، و(نسمات الأسحار على شرح المنار)، و(حاشية على المطول) في البلاغة، و(الرحيق المختوم) في الفرائض، و(حواشٍ على تفسير البيضاوي) التزم فيها ألا يذكر شيئاً ذكره المفسرون، و(مجموعة رسائل) مجلدان، وهي 32 رسالة، و(عقود اللآلي في الأسانيد العوالي).

اقرأ أيضاً: مسألة الإيمان وحيرة الإنسان أمام الحقيقة الكبرى

ويُعتبر كتاب “الحاشية” “رد المحتار على الدر المختار”، من أهم كتب ابن عابدين وأكثرها انتشاراً لدى دارسي العلوم الإسلامية وأصول الفقه، حيث يتصل بالعديد من فروع العلوم، بما في ذلك السيرة النبوية المطهرة، والحديث الشريف، وأصول التفسير، وغير ذلك من التخصصات الفقهية.

ويقول الدكتور عبد اللطيف الفرفور عن “حاشية” ابن عابدين: “مهد ابن عابدين في حاشيته رد المحتار، للموسوعة الفقهية أو ما يسمى اليوم بدائرة معارف الفقه الإسلامي، وكانت حاشيته أشبه بدائرة معارف للمذهب الحنفي، وخطوة رائدة نحو هذا المشروع العظيم المنوّه به، الذي طالما تنادى إليه المستشرقون وفقهاء القانون في الشرق والغرب”.

ويقول لويس شيخو في كتابه “تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر”: “أما بلاد الشام، فاشتهر من علمائها الشيخ محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، المعروف بابن عابدين الدمشقي، برز بين أبناء وطنه، وأخذ عنه علماء الشام”.

أما عبد الوهاب سكر، فيشير إلى أهمية كتاب “الحاشية” لابن عابدين، في كتابه “من أعلام الإسلام” بالقول: “ولم يبق عالم من أعلام المسلمين في بلدة من بلاد الإسلام، إلا وحاشية ابن عابدين أول كتاب في خزانته”.

جامع سنان باشا بدمشق

ويذكر ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي في كتابه “حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر”، عن زيارةٍ قام بها الشيخ شاكر العقاد إلى الشيخ عبد النبي أحد علماء الهند حين قدم إلى دمشق، وكان ابن عابدين ملازماً للشيخ العقاد مترجماً له، فلما دخلا عليه، جلس الشيخ العقاد، وبقي ابن عابدين واقفاً، فطلب الشيخ عبد النبي من الشيخ العقاد أن يأمره بالجلوس وقال: إني لا أجلس إلا أن يجلس هذا الغلام، إني أشمّ منه رائحة أهل البيت، وأنه ستقبّل يده ويظهر فضله بين الناس، وينتفعون بفضله. فأمره شيخه بالجلوس، ومن وقتئذ زاد اعتناء العقاد به.

إضافة إلى علوم الفقه، كان ابن عابدين شاعراً، وقد شجعه الشيخ العقاد على تحرير المسائل وجمع الرسائل، فكتب حاشية على شرح الشيخ سعيد الأسطواني في الإعراب، وشرح أيضاً الكافي في العروض والقوافي، وكان عمره سبعة عشر عاماً. وقد اشتهر بقصيدة كتبها في مدح النبي محمد “ص” يقول فيها:

لبيك يا قمرية الأغصان فلقد صدعت القلب بالألحان

لبيك يا من بالبكا أشبهتني لكن بلا فقد من الخلان

واتصل ابن عابدين بالشيخ خالد النقشبندي، فلقَّنه الطريقة وأجازه، وقد صلى ابن عابدين على الشيخ النقشبندي بعد موته، ودافع عنه ضدّ خصومه، وكتب في ذلك رسالة بعنوان “سلُّ الحسام الهندي في نصرة مولانا خالد النقشبندي”، ورثاه بقصيدة بعد رحيله.

مقبرة باب الصغير بدمشق- فيسبوك

توفي ابن عابدين في 21 ربيع الثاني سنة 1252هـ، وصُلّي عليه في جامع سنان باشا، ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق، وهي أقدم مقبرة إسلامية تضم أضرحة شخصيات مهمة في التاريخ الإسلامي.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

زيد قطريب

كاتب وصحفي سوري