الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

إيخمان في القدس!

كيبوست- ترجمات

حنا أرندت♦

تمر هذه الأيام ذكرى “الهولوكوست”؛ وهي المحرقة الجماعية التي ارتكبها النظام النازي، بقيادة هتلر ومعاونيه ضد اليهود، خلال الحرب العالمية الثانية، وقُتِل فيها ما يقرب من ستة ملايين يهودي أوروبي، لتصبح الجريمة الأكثر بشاعة في تاريخ البشرية الحديث. ولأن الجدل لا يزال دائراً حول تلك الجريمة، وما يتبعها من عمليات إبادة جماعية ممنهجة، فإن المسؤولية الإنسانية والأخلاقية عنها لا تزال أيضاً موضع بحث يشغل المؤرخين والعلماء للإجابة عن أسئلة من شأنها توجيه دفة المحاسبة ورد الاعتبار ليس للمعنيين فقط؛ بل للبشرية بكل أطيافها كإخوة وشركاء في هذا العالم.

وبهذه المناسبة أعادت مجلة “نيويوركر“، نشر مقالة الباحثة والفيلسوفة والمنظرة السياسية الألمانية اليهودية، حنا أرندت، التي نُشرت في الطبعة المطبوعة من عدد المجلة الصادر في 16 فبراير 1963. وكانت قد كتبتها بعد حضور محاكمة أدولف إيخمان؛ الضابط الألماني المشارك في جرائم المحرقة، كموفدة صحفية للمجلة.

وعُرفت أرندت، التي ولدت في ألمانيا عام 1906، بكتاباتها حول العنف والسلطة والإرهاب، وتنظيراتها السياسية بشأن الحرية الفردية ومصائر الجماهير، غير أن رؤيتها للتاريخ اليهودي وكتاباتها عن قضية الهولوكوست هي الأكثر جدلاً. وقد صدر هذا التقرير في كتاب بعنوان «إيخمان في القدس.. تقرير عن تفاهة الشر»، عام 1964.

في “بیت هامشبات” أو محكمة العدل، كانت تدفعنا الكلمات التي يصرخ بها حاجب المحكمة كل صباح إلى الوقوف على أقدامنا متأهبين، معلناً بذلك وصول القضاة الثلاثة الذين يدخلون إلى القاعة من باب جانبي؛ وهم حاسرو الرؤوس، مرتدين عباءاتٍ سوداء، ويأخذون مقاعدهم عند أعلى نقطة من المنصة المرتفعة في واجهة القاعة. ويجلسون على طاولة طويلة، ستُغمر في نهاية المطاف بعددٍ لا يحصى من الكتب، وأكثر من 1500 وثيقة.

وعلى المستوى الأدنى من القضاة مباشرة، يجلس المترجمون الذين ستحتاج المحكمة إلى خدماتهم للتواصل المباشر مع المتهم وهيئة دفاعه؛ حيث إن المتهم أدولف إيخمان بحكم أنه لا يتحدث سوى الألمانية، يتابع شأنه في ذلك شأن جميع الأجانب الحاضرين في القاعة تقريباً، الإجراءات باللغة العبرية من خلال الترجمة الإذاعية الفورية، والتي كانت ممتازة باللغة الفرنسية، ومقبولة بالإنجليزية؛ لكنها لامست حد الكوميديا الهزلية -حيث كان يتعذر فهمها في كثيرٍ من الأحيان- باللغة الألمانية.

اقرأ أيضاً: ما اليوم الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست؟

ويُشرف المترجمون على منبرَين زجاجيَّين يجلس فيهما كلٌّ من المُتهم والشهود في مواجهة بعضهم البعض. وأخيراً، تجلس هيئة الادعاء وظهرها للحاضرين في أسفل المنصة؛ حيث المدعي العام جدعون هاوزنر، وفريقه المؤلف من 4 مساعدين، والدكتور روبرت سيرفاتيوس، محامي الدفاع؛ وهو محامٍ من كولونيا، اختاره إيخمان وتدفع له الحكومة الإسرائيلية أتعابه، وقد رافقه مساعد واحد طوال الأسابيع الأولى من المحاكمة.

ومن الواضح أن قاعة المحكمة هذه كانت مناسبة تماماً للمحاكمة الاستعراضية التي أرادها ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، عندما قرر اختطاف إيخمان من الأرجنتين وتقديمه إلى محكمة القدس المحلية لمحاكمته على الدور الرئيس الذي لعبه في “الحل النهائي للمسألة اليهودية”، وهو التعبير الذي أطلقه النازيون على خطتهم المنهجية لإبادة اليهود. فبن غوريون، الملقب عن حق بـ”مهندس الدولة”، هو المخرج الخفي وراء هذه المسرحية.

وهو لم يحضر أياً من جلسات المحاكمة؛ لكنه كان المتكلم الحاضر فيها عبر صوت المدعي العام جدعون هاوزنر، الذي مثَّل الحكومة وبذل أفضل ما في استطاعته لطاعة سيده. لكن في كثير من الأحيان تبيَّن أن أفضل ما في استطاعته لم يكن جيداً بما فيه الكافية، وكان السبب في ذلك أن قيادة المحكمة تسلمها شخص يخدم العدالة بالإخلاص نفسه الذي يخدم به المدعي العام، السيد جدعون هاوزنر، دولة إسرائيل.

وإذ تقتضي العدالة أن يُحاكم المتهم ويُدافع عنه ويتلقى حكمه، وأن نُبقي على كل الأسئلة الأخرى على الرغم من أنها تبدو أكثر أهمية، معلقة مؤقتاً، وهي أسئلة من نوعية: “كيف يمكن أن يحدث ذلك؟” و”لماذا حدث؟”، و”لماذا اليهود؟” و”لماذا الألمان؟”، و”ما دور الأمم الأخرى؟”، و”إلى أيّ حد يتشارك الحلفاء في تحمل المسؤولية؟” و”كيف أمكن لليهود المساهمة في إبادتهم الذاتية من خلال قادتهم؟” و”لماذا ذهب اليهود إلى موتهم كالنعاج السائرة إلى المسلخ؟”.

إيخمان بالزي العسكري خلال شبابه- “أسوشييتد برس”

وتشدد العدالة على أهمية أدولف إيخمان، الرجل الجالس في القفص الزجاجي الذي بُني من أجل حمايته، وهو رجل متوسط الحجم والعمر، نحيف، أصلع ذو أسنان متهالكة، وقصير النظر؛ حيث ظل يمد عنقه نحو المنصة طيلة المحاكمة؛ حتى يتمكن من الرؤية (دون أن يواجه الجمهور لو لمرة واحدة). وقد حاول يائساً الحفاظ على رباطة جأشه؛ وغالباً ما كان ينجح، على الرغم من الحركة العصبية التي تلازم شفتَيه، والتي ربما تعود إلى زمن سابق للمحاكمة. ولعل ما يخضع للمحاكمة هو أفعال إيخمان وليس معاناة اليهود أو الشعب الألماني أو البشرية أو حتى معاداة السامية والعنصرية.

وقد تبيَّن أن العدالة صاحبة سيادة صارمة أكثر بكثير من رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ إذ يتميز نهج الأخير بالتراخي الذي لا يتوانى السيد هاوزنر عن إظهاره، ويتجلى هذا التراخي في السماح للمدعي العام بتنظيم المؤتمرات والمقابلات الصحفية أمام شاشات التلفار خلال المحاكمة؛ بل وحتى يفسح له المجال للإدلاء بتصريحاتٍ “عفوية ومفاجئة للمراسلين في قاعة المحكمة، (وأن يضيق ذرعاً بالاستجواب المكثف لإيخمان الحاضر دوماً للإجابة عن كل الأسئلة باختلاق الأكاذيب).

إنه التراخي الذي يتيح للمدعي العام الالتفات المتكرر ناحية الجمهور وتبني نوع من الأداء المسرحي المتغطرس الذي يكتمل أخيراً بتلقي الثناء في البيت الأبيض من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على الإتمام الجيد للمهمة. وإذا كان الجمهور في المحكمة يُمثل العالم، والمحاكمة المسرحية هي المشهد البانورامي الضخم لمعاناة اليهود، فإن النتيجة لم تكن ترقى إلى مستوى التوقعات، وفشلت في تحقيق الغرض منها.

القائد أدولف إيخمان (الثاني من اليمين) يبتسم بينما قام الضباط الألمان بقص شعر سجين يهودي في معسكر اعتقال بيرغن بيلسن- “أسوشييتد برس”

فقد حافظ الصحفيون على التزامهم اليومي لفترة لا تزيد على أسبوعين، ثم تغير الحضور جذرياً. وكان من المفترض أن يتشكل الجمهور الآن من إسرائيليين، وعلى وجه التحديد من صغار السن الذين لا يعرفون القصة، أو من اليهود الشرقيين الذين لم يروِها لهم أحد من قبل. وكان من المفترض أن تُظهر لهم المحاكمة ما يعنيه العيش بين غير اليهود لإقناعهم بأن اليهودي لن يكون آمناً ولن يحيا حياة كريمة إلا داخل إسرائيل فقط. (وبالنسبة إلى المراسلين، تم توضيح الدرس من خلال كتيب صغير عن النظام القانوني الإسرائيلي، تم تسليمه إلى الصحافة).

وتستشهد مؤلفته دوريس لانكين، بقرارٍ من المحكمة العليا الإسرائيلية، يتعلق بأبوين “اختطفا طفليهما وجلباهما إلى إسرائيل”، فأمرت المحكمة بإعادة الطفلين إلى أمّيهما المقيمتين في الخارج، واللتين لهما الحق القانوني في حضانتهما.

وبينما يتوالى الشهود ويتراكم الرعب، يجلس الجمهور مصغياً في العلن إلى رواياتٍ لم يكن ليطيق سماعها على انفراد إذا ما تضمن ذلك مواجهة الراوي وجهاً لوجه. وكلما توالت فصول كارثة الشعب اليهودي من هذا الجيل (على حد تعبير هاوزنر)، تعاظمت لغته الرنانة، وتضاءل الشخص الجالس وراء الزجاج وصارت ملامحه أكثر شحوباً وشبحية، ولم يعد تلويح إصبع الاتهام (نحو هذا الوحش المسؤول عن كل هذا) يجدي نفعاً في إعادته إلى الحياة.

وكان الدرس الموجه إلى العالم غير اليهودي: “نريد أن نثبت أمام العالم كيف قُتل ملايين الناس لأنهم كانوا يهوداً، وكيف قُتل مليون طفل على أيدي النازيين؛ لأنهم كانوا يهوداً أيضاً”، أو على حد تعبير صحيفة “دافار”، صحيفة حزب ماباي الذي يتزعمه بن غوريون: “فليعلم الرأي العام العالمي أن مسؤولية قتل ستة ملايين يهودي في أوروبا لا تقع على عاتق ألمانيا النازية وحدها”.

اقرأ أيضاً: 60 عاماً على محاكمة آيخمان: إشارة تحذير لعصرنا

وهكذا، ومرة أخرى على حد تعبير بن غوريون نفسه: “نريد لأمم العالم أن تعرف، ونريدها أن تشعر بالعار”، ويتوجب على يهود الشتات أن يتذكروا كيف عاشت اليهودية “ذات الأربعة آلاف عام بخلقها الروحي، ونضالاتها الأخلاقية، وتطلعاتها المسيانية دوماً في ظلِّ عالم عدائي”، وكيف انحدر اليهود إلى حد الذهاب إلى موتهم كالنعاج، وكيف أن تأسيس دولة يهودية هو وحده الذي مكَّن اليهود من رد الضربات، كما فعل الإسرائيليون في حرب الاستقلال، وفي مجازفة السويس، وفي الحوادث شبه اليومية على الحدود التعسة لإسرائيل.

وإذا كان لابد من إظهار الفرق بين البطولة الإسرائيلية والخنوع اليهودي، لليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل، فثمة درس لهم ولليهود داخل إسرائيل أيضاً: “إن الجيل الإسرائيلي الذي نشأ بعد المحرقة” كان عُرضة لخطر فقدان علاقاته بالشعب اليهودي، وضمناً، بتاريخه. ومن الضروري أن يتذكر شبابنا ما حدث. ونريدهم أن يعرفوا أكثر الحقائق مأساوية في تاريخنا. “وأخيراً، كان أحد الدوافع وراء تقديم إيخمان للمحاكمة هو (اكتشاف النازيين الآخرين، على سبيل المثال العلاقة بين النازيين وبعض الحكام العرب)”.

فإذا كانت تلك هي المبررات الوحيدة لجلب أدولف إيخمان إلى محكمة القدس المحلية، فإن المحاكمة كانت فشلاً بكل المقاييس. وفي بعض الأحيان، كانت هذه الدروس غير مجدية، وفي أحيانٍ أخرى كانت مضللة للغاية. فبفضل هتلر، لم يعد يمكن التعويل على معاداة السامية، ربما ليس إلى الأبد، ولكن بالتأكيد في الوقت الحالي، وهذا ليس لأن اليهود أصبحوا أكثر شعبية فجأة؛ بل لأن معظم الناس وليس بن غوريون فقط، أدركوا أن غرفة الغاز ومصنع الصابون في أيامنا هذه هما ما قد تؤدي إليهما معاداة السامية”.

من مكتبه في مقر الجستابو في برلين نظَّم إيخمان عمليات النقل بالسكك الحديدية التي أودت بحياة ستة ملايين يهودي- “بي بي سي”

إن التناقض بين البطولة الإسرائيلية والضعف اليهودي الخانع الذي قادهم إلى حتفهم -عندما كانوا يصلون في الوقت المحدد إلى نقاط التجمع، ويمشون على أقدامهم إلى مراكز الإعدام، ويحفرون قبورهم بأيديهم، ويخلعون ملابسهم ويرتبونها بعناية، ويضطجعون جنباً إلى جنب بانتظار إطلاق النار عليهم- بدا كنقطةٍ بالغة الدلالة، وبدت أسئلة المدعي العام وهو يسأل شاهداً تلو الآخر: “لماذا لم تعترض؟ لماذا ركبت القطار؟ خمسة عشر ألف سجين يقفون في مواجهة مئات من الحراس، لماذا لم تتمردوا وتنتفضوا وتهاجموا هؤلاء الحراس؟ وكأنها تعزف على هذه النغمة إلى أقصى مدى.

ومن ناحيةٍ أخرى، لم تكن توقعات بن غوريون للمحاكمة مخيبة للآمال تماماً؛ لأنها أصبحت بالفعل أداة مهمة لاكتشاف النازيين والمجرمين الآخرين؛ ولكن ليس في الدول العربية التي وفرت علانية اللجوء للمئات منهم. فلم تكن العلاقة بين مفتي القدس والنازيين في زمن الحرب سراً؛ حيث كان يأمل أن يساعدوه في تنفيذ “حل نهائي” ما للمسألة اليهودية في الشرق الأدنى.

ولم تخفِ الصحف في دمشق وبيروت والقاهرة والأردن تعاطفها مع إيخمان أو أسفها؛ لأنه “لم ينهِ مهمته”. وتضمن تقرير إذاعي تم بثه من القاهرة يوم افتتاح المحاكمة نبرة تشي بالعداء إلى الألمان ولومهم على تقاعسهم؛ إذ “لم تحدث حادثة واحدة أغارت فيها طائرة ألمانية على مستوطنات اليهود (في فلسطين) أو ألقيت عليهم قنبلة واحدة طيلة الحرب العالمية الأخيرة”. ولعل تعاطف القوميين العرب مع النازية أمر معروف، ولم تكن هناك حاجة إلى بن غوريون ولا لهذه المحاكمة “لكشف الغطاء عنهم”؛ فهم لم يختبئوا قط. ولم تكشف المحاكمة إلا عن أن كل الشائعات حول علاقة إيخمان بالحاج أمين الحسيني، مفتي القدس في زمن الحرب، لا أساس لها من الصحة.

جواز السفر الذي استخدمه إيخمان.. حيث فرّ إلى الأرجنتين عام 1950 تحت الاسم المستعار “ريكاردو كليمنت” بجواز سفر صادر عن الصليب الأحمر- “أسوشييتد برس” و”دايلي ميل”

وقد أظهرت الوثائق التي قدمها الادعاء أن المفتي كان على اتصالٍ وثيق مع وزارة الخارجية الألمانية، ومع هيملر، ولم يكن هذا بالأمر الجديد؛ ولكن إذا كانت ملاحظة بن غوريون حول “العلاقة بين النازيين وبعض الحكام العرب” لا طائل من ورائها، فإن امتناعه عن ذكر ألمانيا الغربية الحالية في هذا السياق كان مفاجئاً. وبطبيعة الحال، كان من المطمئن أن نسمع أن إسرائيل “لا تحمِّل أديناور المسؤولية عن هتلر”، وأن “ألمانِياً محترماً هو إنسان محترم في نظرنا، على الرغم من أنه ينتمي إلى الأمة نفسها التي ساعدت قبل عشرين عاماً في قتل الملايين من اليهود”. (لم تكن هناك أية إشارة عن العرب المحترمين).

اقرأ أيضاً: متى ينال اللاجئون اليهود من الدول العربية العدالة التي يستحقونها؟

وفي حين أن الجمهورية الألمانية الاتحادية لم تعترف بعد بدولة إسرائيل -ربما خوفاً من أن تعترف الدول العربية بألمانيا الشرقية بقيادة أولبريشت- فقد دفعت سبعمئة وسبعة وثلاثين مليون دولار كتعويض لإسرائيل خلال السنوات العشر الماضية. وهي تعويضات ستنتهي قريباً، وتحاول إسرائيل الآن التفاوض مع ألمانيا الغربية للحصول على قرضٍ طويل الأجل. ومن ثمَّ، فإن العلاقة بين البلدَين، ولا سيما العلاقة الشخصية بين بن غوريون وأديناور، في أفضل أحوالها، وإذا نجح بعض النواب في الكنيست، في أعقاب المحاكمة، في فرض بعض القيود على برنامج التبادل الثقافي مع ألمانيا الغربية، فإن ذلك لم يكن بالتأكيد ضمن ما يتوقعه بن غوريون أو يأمل فيه.

ومن اللافت للانتباه أيضاً أنه لم يتوقع أو يهتم بذكر حقيقة أن القبض على إيخمان من شأنه أن يؤدي إلى أول جهد جاد يبذله الألمان الغربيون لتقديم مجرمي الحرب المتورطين مباشرة في القتل إلى المحاكمة. وقد واجهت الوكالة المركزية للتحقيق في الجرائم النازية، التي أنشأتها في وقت متأخر الولايات الألمانية الغربية الإحدى عشرة عام 1958، والتي ترأسها المدعي العام إروين شول، جميع أنواع الصعوبات، التي نجم بعضها عن عدم رغبة الشهود الألمان في التعاون، والبعض الآخر كان بسبب عدم رغبة المحاكم المحلية في المقاضاة على أساس المواد المرسلة إليهم من الوكالة المركزية.

صفحة من يوميات أدولف إيخمان حيث كتب مذكرات طويلة في السجن بعد أن تم اعتقاله في الأرجنتين من قِبل عملاء سريين إسرائيليين ونقله إلى إسرائيل لمحاكمته على جرائم ضد الإنسانية- “رويترز”

ولم يكن الأمر أن المحاكمة في القدس قد أسفرت عن أي دليل مهم جديد من النوع اللازم لاكتشاف شركاء إيخمان؛ بل إن أنباء القبض المثيرة على إيخمان، واحتمال محاكمته، كان لها الأثر الكافي لإقناع المحاكم المحلية باستخدام النتائج التي توصل إليها السيد شول والتغلب على ممانعة السكان الأصليين في فعل أي شيء حيال “القتلة الذين يعيشون بيننا” من خلال الحيلة العريقة المتمثلة في الإعلان عن مكافآتٍ مالية مقابل معلومات تؤدي إلى القبض على المجرمين المعروفين.

وقد كانت النتائج مذهلة؛ فبعد 7 أشهر من وصول إيخمان إلى القدس -وقبل 4 أشهر من بدء المحاكمة- تم أخيراً اعتقال ريتشارد باير، الذي خلف رودولف هوس كقائد لمعسكر أوشفيتز. ثم تعاقب على الفور معظم أعضاء ما يُسمى بفريق إيخمان- فرانز نوفاك، وهو ضابط نقل إيخمان الذي كان يعيش كعامل مطبعة في النمسا، والدكتور أوتو هونش، الخبير القانوني ومساعده في هنغاريا، الذي استقر كمحام في ألمانيا الغربية؛ وهيرمان كرومي، نائب إيخمان في القيادة في هنغاريا، الذي أصبح صيدلياً، وغوستاف ريختر “المستشار اليهودي” السابق في رومانيا، كما أُلقي القبض أيضاً على الدكتور غونتر زوبف، الذي شغل المنصب نفسه في أمستردام.

وعندما تم القبض على إيخمان، تنبأ المستشار أديناور بالإحراج الذي سينتج عن ذلك، وأعرب عن خوفه من أن المحاكمة “ستثير مرة أخرى كل الفظائع” وسوف تخلق موجة جديدة من المشاعر المعادية لألمانيا في جميع أنحاء العالم؛ وهو ما حدث بالفعل. وخلال الأشهر العشرة التي احتاجت إليها إسرائيل للتحضير للمحاكمة، كانت ألمانيا منهمكة في الاستعداد لنتائجها المتوقعة من خلال إظهار حماسة غير مسبوقة لملاحقة وتعقب المجرمين النازيين، ومحاكمتهم داخل البلاد.

اقرأ أيضاً: ما الفرق بين “التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية”؟

وفي ضوء الأحكام المخففة التي أصدرتها المحاكم الألمانية على مرتكبي المجازر الجماعية من النازيين، فإن من الصعب عدم الاشتباه في أن هذا الاعتراض قد صدر بسوء نية. ومن المؤكد أن العقبة السياسية الأبرز في وجه محاكمة إيخمان في ألمانيا كانت أن المحكمة الألمانية ربما تمنحه الحد الأقصى للعقوبة بموجب القانون الألماني. 

وثمة جانب آخر للمسألة قد يكون أكثر دقة وأشد أهمية من الناحية السياسية؛ حيث إن إخراج القتلة والمجرمين من مخابئهم شيء، والعثور عليهم وهم يحتلون مناصب رفيعة، وينجحون في الحقل العام -حيث يصادف المرء عدداً لا يحصى من الرجال في الإدارات الاتحادية، وإدارات الولايات من الذين ازدهرت حياتهم المهنية في ظل نظام هتلر– هو شيء آخر. ومما لا شك فيه أنه لو كانت إدارة أديناور تتحسس تجاه توظيف المسؤولين الذين لهم ماض نازي مشبوه، لما كانت هناك إدارة على الإطلاق.

إن التاريخ، من وجهة نظر الادعاء، كان هو الواقف في قلب المحكمة. “ليس هناك فرد واحد في قفص الاتهام في هذه المحكمة التاريخية، ولا حتى النظام النازي وحده؛ بل معاداة السامية على مرِّ التاريخ”. تلك كانت النغمة التي وضعها بن غوريون واتبعها بإخلاص السيد هاوزنر الذي بدأ خطابه الافتتاحي، الذي استمر على مدى ثلاث جلسات، بالفراعنة في مصر ومرسوم هامان الذي تعهد “بتدمير وذبح وإهلاك اليهود”.

وكانت حجة الدفاع قد اقتربت الآن بشكلٍ خطير من أحدث نظرية معادية للسامية حول حكماء صهيون؛ وهي نظرية سبق أن عرضها بكل جدية قبل أسابيع قليلة نائب وزير الخارجية، حسین ذو الفقار صبري، في مجلس النواب المصري، عندما قال “إن هتلر كان بريئاً من مذبحة اليهود، وإنه كان ضحية الصهاينة الذين أجبروه على ارتكاب الجرائم لخلق أسطورة تمكنهم في النهاية من تحقيق هدفهم، وهو تأسيس دولة إسرائيل. إلا أن الدكتور سيرفاتيوس قال إن اتباع فلسفة التاريخ التي عرضها المدعي العام تضع التاريخ ذاته في مكان حكماء صهيون”.

إيخمان يقف أمام المحقق الإسرائيلي أفنير ليس.. بحضور فريق “المكتب 06” المسؤول عن القضية- مركز تراث شرطة إسرائيل

وبدا الأمر وكأن موقف إيخمان ذاته كان مختلفاً. فبادئ ذي بدء، كان الاتهام بارتكاب جريمة القتل خاطئاً: “لكن لم يكن لي أية علاقة بقتل اليهود. لم أقتل يهودياً أو غير يهودي قط، لم أقتل أي إنسان. لم أُعطِ أمراً بقتل يهودي أو غير يهودي. أنا ببساطة لم أفعل ذلك”؛ أو كما عقَّب لاحقاً على تصريحه: “إن ما حدث.. هو أنني لم أجبر على فعل ذلك ولا مرة”؛ حيث قال صراحة إنه كان ليقتل والده إذا تلقى أمراً بذلك.

ولم يعر الدفاع أي اهتمام لنظرية إيخمان؛ لكن الادعاء أهدر الكثيرَ من الوقت في محاولةٍ فاشلة لإثبات أنه قتل مرة واحدة، على الأقل بيديه (كان من المفترض أنه ضرب صبياً يهودياً حتى الموت في المجر). وقضى الادعاء وقتاً أطول وبنجاح أكبر في تحليل ملحوظة كتبها فرانز رادماشير، الخبير اليهودي في مكتب الخارجية الألماني، على إحدى الوثائق المتعلقة بيوغسلافيا خلال محادثة هاتفية، وكان مفادها: “إيخمان يقترح إطلاق الرصاص”. وقد تبين أنه “أمر القتل” الوحيد إذا ما اعتبرناه كذلك؛ حيث لا يوجد دليل واحد عليه.

اقرأ أيضاً: كيف تعلم هتلر العنصرية على يد الأمريكيين؟

وكان الدليل بـ”اقترح إطلاق النار” مشكوكاً فيه أكثر مما بدا أثناء المحاكمة عندما قبل القضاة رواية المدعي العام ضد إنكار إيخمان القاطع أنه قام بالقتل أو أصدر أمراً بالقتل؛ وهو إنكار غير فعّال أبداً؛ لأنه ينطوي على إشارةٍ ضمنية إلى أنه نسي أمر “الحادثة العرضية (قتل ثمانية آلاف شخص)، والتي لم تكن صادمة كثيراً”، على حدِّ تعبير الدكتور سيرفاتيوس. والتي وقعت في خريف عام 1941؛ حيث كان الجيش الألماني قد احتل الجزءَ الصربي من يوغوسلافيا قبل 6 أشهر، وكان يعاني عميات المقاومة منذ ذلك الحين.

وقررتِ السلطات حلَّ المشكلتَين بضربةٍ واحدة عن طريق إطلاق النار على مئة من اليهود والغجر كرهائن في مقابل كل جندي ألماني يُقتل. ولا شك أن اليهود والغجر لم يكونوا من أنصار المقاومة؛ ولكن على حدِّ تعبير الضابط المدني المسؤول في الحكومة العسكرية، وهو شخص يدعى ستاتسيرات هارالد تيرنر، “إن اليهود موجودون في معسكراتنا على أية حال، وهم أيضاً من الصرب، ويجب التخلص منهم”.

وقد أعد تلك المخيمات الجنرال فرانز بومه، الحاكم العسكري للمنطقة، ولم يحتجز بها سوى اليهود الذكور؛ ولم ينتظر الجنرال بومه ولا ستاتسرات ترنر موافقة إيخمان قبل البدء بإطلاق النار على اليهود أو الغجر وقتلهم بالآلاف. إذ بدأت المشكلة عندما قرر بومه، دون التشاور مع سلطات الشرطة وقوات الأمن المختصة، ترحيل جميع اليهود؛ ربما لإعطاء الانطباع بعدم ضرورة إرسال قوات خاصة تعمل تحت قيادة مختلفة لجعل صربيا خالية من اليهود.

موظفو “المكتب 06” يطلعون على شهادة إيخمان التي استغرقت 275 ساعة وأسفرت عن 3564 صفحة- مركز تراث شرطة إسرائيل

وطوال المحاكمة، حاول إيخمان أن يوضح، دون جدوى غالباً، النقطة التي يستند إليها في دفعه بأنه “ليس مذنباً بالمعنى الوارد في لائحة الاتهام”. ولم تقتصر لائحة الاتهام على أنه تصرف عن عمد فحسب، وهو ما لم ينكره؛ بل إنه تصرف بدوافع دنيئة، ومع علمٍ تام بالطبيعة الإجرامية لأفعاله. وللأسف، لم يصدقه أحد. ولم يصدقه المدعي العام؛ لأن تلك لم تكن وظيفته، ولم يولِ محامي الدفاع أيّ اهتمام؛ لأنه على النقيض من إيخمان، لم يكن معنياً بمسائل الضمير، والقضاة من جهتهم لم يصدقوه لأنهم كانوا بارعين للغاية، وربما واعين تماماً بأسس مهنتهم إلى الحد الذي يمنعهم من الاعتراف بأن الشخص العادي “الطبيعي”، وليس ضعيف العقل أو معبأ الفكر أو الخبيث، يمكن أن يكون عاجزاً تماماً عن التمييز بين الصواب والخطأ.

ولد إيخمان في 19 مارس 1906 في زولينغن؛ وهي بلدة ألمانية في منطقة الراينلاند؛ تشتهر بصناعة السكاكين والمقصات والأدوات الجراحية. وبعد أربعةٍ وخمسين عاماً، وأثناء انغماسه في هوايته المفضلة وهي كتابة مذكراته، وصف هذا الحدث البارز كما يلي: “اليوم، وبعد انقضاء خمسة عشر عاماً ويوم واحد على السابع من مايو 1945، أبدأ بالعودة بأفكاري إلى ذلك اليوم في الـتاسع عشر من مارس سنة 1906، عندما دخلت إلى الحياة على الأرض في الساعة الخامسة صباحاً على هيئة إنسان”.

لكن إيخمان، الذي لم يكن مهتماً كثيراً بالميتافيزيقيا، التزم الصمت بشأن أية علاقة أكثر حميمية بين حامل المعنى وحامل الأوامر، وتابع النظر في المصدر المحتمل الآخر لوجوده، والديه: “لم تكن السعادة البالغة لتغمرهما عند وصول ابنهما الأول لو لاحظا عند ساعة مولدي كيف تغلب طالع التعاسة على طالع الحظ الجيد، وبدأ ينشر خطوط الحزن في حياتي؛ لكنَّ حجاباً لطيفاً ومنيعاً منع أهلي من رؤية المستقبل”.

المدعي العام جدعون هاوزنر يقف للتحدث خلال محاكمة إيخمان- موسوعة الهولوكوست

إلا أنه في إسرائيل، وخلال جلساته الأولى مع مفتش الشرطة، النقيب أفنير ليس، الذي أمضى معه ما يقرب من خمسة وثلاثين يوماً وأنتج آلاف الصفحات المكتوبة بالآلة الكاتبة، جرى تفريغها من 76 شريطاً مسجلاً، كان مليئاً بالحماس لهذه الفرصة الفريدة “لسكب كل ما يعرفه”، وأن يرتقي إلى مرتبة أكثر المُدعى عليهم تعاوناً على الإطلاق. وخير دليل على ثقته اللا متناهية -والتي من الواضح أنها أهدرت على النقيب “ليس”- هو اعترافه للمرة الأولى في حياته بكوارثه الباكرة، رغم إدراكه أنه يناقض ما كتبه بنفسه من معلوماتٍ في سجلاته الرسمية النازية.

ففي سجل سيرة ذاتية مكتوب بخط اليد قدمه إيخمان عام 1939 للفوز بترقية في قوات الأمن الخاصة، وصف الأمر كما يلي: “عملت خلال السنوات من 1925 إلى 1927 بائعاً في شركة الكهرباء النمساوية، وتركت هذا المنصب بإرادتي الحرة عندما عرضت عليَّ شركة (فاكييم أويل) في فيينا منصباً تمثيلياً للنمسا العليا”، الكلمة الأهم هنا هي “عرضت”؛ إذ إنه في روايته للنقيب “ليس” لم يعرض عليه أحد شيئاً أبداً. وكانت والدته قد توفيت وهو في العاشرة من عمره، وتزوج والده مرة أخرى في العام نفسه.

وكان ابن عم زوجة أبيه -والذي أطلق عليه “العم”- رئيساً لنادي السيارات النمساوي، ومتزوجاً بابنة رجل أعمال يهودي في تشيكوسلوفاكيا، على معرفة بالمدير العام لشركة “فاكييم أويل” النمساوية، وهو يهودي يُدعى فايس، واستغل هذا الاتصال للحصول على وظيفة لأحد أقربائه التعساء كبائع متجول. وكان إيخمان ممتناً بحق؛ وفي الواقع، كان اليهود في عائلته من بين “أسبابه الخاصة” لعدم كره اليهود.

اقرأ أيضاً: عدد اليهود في عالم اليوم أقل مما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية

وعلى أية حال، فإن عام 1932 كان نقطة تحول في حياة إيخمان. ففي أبريل من هذا العام، انضم إلى الحزب الاشتراكي الوطني وانخرط في صفوف قوات الأمن الخاصة، بناءً على دعوة من إرنست كالتنبرونر، الذي كان آنذاك محامياً شاباً في لينز، ثم أصبح في ما بعد رئيس مكتب الأمن الرئيس للرايخ، والذي التحق إيخمان بإحدى الدوائر الست الرئيسة فيه (سبع لاحقاً)، وهي المكتب الرابع بقيادة هاينرش مولر، حيث عُيِّن رئيس قسم ب-4. وفي المحكمة، أعطى إيخمان الانطباع أنه كان عضواً عادياً في أدنى درجات الصفوف الوسطى، وشدد على ترسيخ هذا الانطباع في كل جملة قالها أو كتبها أثناء وجوده في السجن.

وفي عام 1935، قامت ألمانيا باستحداث نظام تجنيد عام وأعلنت خططها لإعادة التسلح؛ بما في ذلك بناء قوة جوية وبحرية، منتهكةً بذلك معاهدة فرساي. وكان هذا أيضاً العام الذي تركت فيه ألمانيا عصبة الأمم عام 1933، وأعدت علناً لاحتلال منطقة راينلاند منزوعة السلاح. فقد كان هذا عام خطابات هتلر عن السلام (“ألمانيا تحتاج السلام وترغب فيه”، “نحن نعترف ببولندا موطناً لشعبٍ عظيم واعٍ على المستوى الوطني”، “ألمانيا لا تنوي ولا ترغب في التدخل في الشؤون الداخلية للنمسا، ولا ضمها إليها”)، وقبل كل شيء، كان هذا العام الذي فاز فيه النظام النازي باعترافٍ عام وحقيقي في ألمانيا وخارجها على حد سواء؛ حيث نال هتلر الإعجاب في كل مكان باعتباره رجل دولة وطنياً عظيماً.

وفي ألمانيا نفسها، كانت تلك مرحلة انتقالية. فبسببِ برنامج إعادة التسلح الهائل تبخرت البطالة؛ مما أدى إلى كسر المقاومة الأولية من الطبقة العاملة. فاعتداءات النظام، في حين أنها كانت موجهة في البداية ضد “مناهضي الفاشية” -الشيوعيين والاشتراكيين والمفكرين اليساريين واليهود في المناصب البارزة- وبالطبع لم تتحول بالكامل بعد إلى اضطهاد لليهود بصفتهم يهوداً.

حنا أرندت في محاضرة عام 1969 وقد كتبت عن حالتها كشخص عديم الجنسية في أعقاب الهولوكوست- “نيويورك تايمز”

وقد استمرت هجرة اليهود في هذه السنوات، بشكلٍ عام، بطريقةٍ منظمة وغير مُتسرعة، كما أن القيود المفروضة على العملة والتي جعلت من الصعب، ولكن ليس من المستحيل، على اليهود أخذ أموالهم -أو على الأقل الجزء الأكبر منها- إلى خارج البلاد، كانت هي نفسها المفروضة لغير اليهود؛ حيث كانت تعود إلى أيام جمهورية فايمار. وكان هناك عدد قليل من الحوادث الفردية؛ ولكنها حدثت عادةً في البلدات الصغيرة. وفي الواقع، يمكن إرجاعها إلى مبادرات عفوية “فردية” لبعض جنود “ستورم تروبس” أو ما يُسمى برجال كتيبة العاصفة، أو القمصان البنية، الذين كانوا يُجندون في الأساس من الطبقات الدنيا، باستثناء أعضاء هيئة الضباط.

اقرأ أيضاً: المشكلات اللغوية والفلسفية في نص قانون الدولة اليهودية

وعندما سُئل إيخمان كيف وفَّق بين مشاعره الشخصية تجاه اليهود ومعاداة السامية الصريحة والعنيفة التي يتصف بها الحزب الذي انضم إليه، أجاب بالمثل القائل: “لا يأكل المرء الطعام بنفس السخونة التي كان يطبخ بها”، وهو مثل جرى على ألسنة الكثير من اليهود أيضاً؛ فقد كانوا يعيشون لبضع سنواتٍ في آمال زائفة، حتى إن شترايخر نفسه تحدث عن “حل قانوني” للمعضلة اليهودية، وتطلب الأمر وقوع المذابح المنظمة في نوفمبر 1938؛ المسماة “ليلة الزجاج المكسور”، والتي تحطمت فيها نوافذ سبعة آلاف وخمسمئة محل يهودي، وحرق فيها كل المعابد اليهودية، وسيق عشرون ألف يهودي إلى معسكرات الاعتقال؛ ليفيقوا من تلك الأحلام.

وكانت الاتصالات الشخصية الأولى التي أجراها إيخمان مع المسؤولين اليهود، الذين كانوا جميعاً من الصهاينة المعروفين منذ أمد بعيد، مرضية تماماً. وأوضح أن السبب الذي جعله مفتوناً بـ”المساءلة اليهودية” هو “المثالية” التي كان يتمتع بها، فهؤلاء اليهود بعكس الاستيعابيين الذين احتقرهم دوماً، وبعكس الأرثوذكسيين الذين أضجروه، كانوا “مثاليين” على شاكلته. وليس “المثالي” في مفاهيم إيخمان مجرد شخص يؤمن “بفكرة” أو شخص لا يسرق ولا يقبل الرشوة، على الرغم من أن هذه الصفات لا غنى عنها.

غلاف كتاب حنا أرندت «إيخمان في القدس.. تقرير عن تفاهة الشر» الصادر عام 1964- موقع “أمازون”

وتم تعيين إيخمان على رأس ما كان يُسمى مركز الهجرة اليهودية، وجرى تعريف مهمته على أنها “تهجير قسري”، وكانت هذه الكلمات تعني تماماً بالضبط ما قالوه كل اليهود، بغض النظر عن رغباتهم، وبغض النظر عن جنسيتهم، سيتم إجبارهم على الهجرة؛ وهو فعل يُسمى في اللغة الدارجة “الطرد”.

لقد تم حجب ثمانية ملايين ألماني عن رؤية الواقع والوقائع من خلال الوسائل نفسها التي أصبحت الآن متأصلة في طبيعة إيخمان من خداع للذات والأكاذيب والغباء. وبتغير الأكاذيب من سنةٍ إلى أخرى، وتناقضها في كثير من الأحيان؛ فضلاً عن أنها لم تكن بالضرورة هي نفسها بالنسبة إلى مختلف مستويات التسلسل الهرمي للحزب أو الشعب ككل. لكن خداع الذات أصبح منتشراً على نطاقٍ واسع -وهو تقريباً شرط أخلاقي للبقاء– لدرجة أنه حتى الآن، وبعد مرور ثمانية عشر عاماً على انهيار النظام النازي، وبعد أن أصبحت أغلب المحتويات المحددة لأكاذيبه منسية، فمن الصعب في بعض الأحيان ألا نصدق أن الكذب أصبح جزءاً لا يتجزأ من الشخصية الوطنية الألمانية.

اقرأ أيضاً: فلسفة التاريخ عند هنري كسنجر

والواقع أن استعداد إيخمان المذهل للاعتراف بجرائمه، سواء في الأرجنتين أو في القدس، لم يكن راجعاً إلى قدرته الإجرامية على خداع الذات بقدر ما كان راجعاً إلى هالة الكذب المنهجي التي شكلت الجو العام المقبول عموماً في الرايخ الثالث. “فمن المؤكد” أنه لعب دوراً في إبادة اليهود؛ وبالطبع لو “لم ينقلهم لما تم تسليمهم لمن ذبحوهم”.

وقد امتلأ عقل إيخمان إلى أقصى حد بهذه الجمل. وتبين أن ذاكرته لا يمكن الاعتماد عليها إطلاقاً في ما يتعلق بما حدث فعلاً. وفي لحظةٍ نادرة من السخط، سأل القاضي لانداو المتهم: “ألا يوجد أمر يمكنك تذكره؟” (إذا كنت لا تتذكر المناقشات في ما يسمى مؤتمر وانسي، الذي تناول مختلف أساليب قتل اليهود)؛ وكانت الإجابة بالطبع أن إيخمان يتذكر نقاط التحول في حياته المهنية بشكلٍ جيد إلى حد ما؛ لكنها لم تتزامن بالضرورة مع نقاط التحول في قصة الإبادة اليهودية، أو في الواقع، مع نقاط التحول في التاريخ.

أنا أرفض ذلك؛ أنا أرفض ذلك لأسبابٍ أخلاقية. وبما أن تجربتي تخبرني أنه إذا كان المرء مخلصاً لقسمه، فيجب عليه يوماً ما أن يتحمل العواقب؛ فقد اتخذت قراري مرة واحدة وإلى الأبد أنه لا يوجد قاض في العالم أو أية سلطة أخرى ستكون قادرةً على جعلي أقسم اليمين للإدلاء بشهادة تحت القسم. “لن أفعل ذلك طواعية، ولن يتمكن أحد من إجباري”، وبعد أن قيل له صراحة إنه إذا رغب في الإدلاء بشهادته دفاعاً عن نفسه، فقد “يفعل ذلك تحت القسم أو دون قسم”، فأعلن دون مزيد من اللغط أنه يفضل الشهادة تحت القسم.

♦هاجرت إلى الولايات المتحدة هرباً من نظام النازي عام 1951، وحاضرت في جامعات برنستون، ونورث وسترن، وجامعة ويسليان، وكاليفورنيا، وجامعة شيكاغو، وجامعة ييل، وجامعة كولومبيا، وكلية بروكلين. وتوفيت في نيويورك عام 1975.  

لقراءة الأصل الإنكليزي: اضغط هنا

المصدر: نيويوركر

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة