الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
إلى من يهمه الأمر.. دراسة الفلسفة ليست ترفاً!
خطاب من أكاديميين أستراليين حول أهمية حماية الفلسفة.. وخطورة تهميش الحكومات للعلوم الإنسانية

كيوبوست – ترجمات
كفلاسفةٍ، نحن مدربون على النظر إلى الأفكار الجدلية بعقل منفتح، والتحقق من فرضياتنا الخاصة، وتنمية احترام راسخ لخصومنا الأيديولوجيين؛ لكن عندما يتعرض تخصصنا إلى انتقادات مجحفة من قِبل شخصيات نافذة، وعندما يكون هذا النقد هو الدافع وراء سياسات حكومية لاحقة، فإننا نشعر بالتزام خاص لتصحيح سوء الفهم.
إن التغييرات المقترحة على الرسوم الجامعية للطلاب الأستراليين غير مدروسة على الإطلاق، ومن غير المرجح أن تحقق هدفها المعلن المتمثل في إعداد الخريجين لمواكبة تطورات سوق العمل. وعلى نحو لا يقل أهمية، فإنها تعبر عن مواقف رافضة للفلسفة وغيرها من تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى. وهي ترقى إلى مستوى الهجوم على استقلالية الجامعات ورفاهها. ونحن نعترض عليها، ونشجع المواطنين والمسؤولين المنتخبين على أن يحذوا حذونا.
اقرأ أيضاً: الفلسفة.. مسيرة العقل البشري
تطرح خطة الحكومة لإعادة هيكلة رسوم التعليم العالي افتراضات غير مقنعة بشأن كيفية ارتباط اتجاهات سوق العمل وآفاق العمل للطلاب بالدراسات الفردية الموجهة. فعلى سبيل المثال، تتجاهل الخطة الأدلة التي تؤكد أن الفلسفة تُعِد الطلاب لسوق عمل لا يمكن التنبؤ بها ومتغيرة من خلال تطوير مهاراتهم التحليلية، وقدرتهم على حل المشكلات المعقدة، وبراعتهم في التفاوض بناءً على الاختلافات الشخصية بين الأفراد. كما أنها تتجاهل الأدلة التي تؤكد أن أرباب العمل يقدرون بالفعل هذه الصفات على وجه التحديد. وكذلك تتجاهل التكاليف الاجتماعية الأوسع نطاقاً لمحاولة توجيه جيل من الشباب بعيداً عن الدراسة الفلسفية. وبشكل أعم، فهي تتجاهل حقيقة أن الجامعات الأسترالية أصبحت تحتل مكانة بارزة على نحو متزايد على الساحة العالمية؛ بسبب تميزها في التدريس والبحث في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية.

وتزعم الحكومة في معرض دفاعها عن الزيادات الهائلة في الرسوم المفروضة على طلاب العلوم الإنسانية والاجتماعية، أن هؤلاء الطلاب “سيظلون يدفعون مبلغاً أقل مقابل تلك الدرجات العلمية في أستراليا مما يدفعونه للحصول على الدرجة نفسها في بلدان مماثلة كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة”. وهذا زعم مخادع؛ فالمهم هو التغييرات التي طرأت على هيكل الحوافز للطلاب الملتحقين بالجامعات الأسترالية، ويتمثل أحد الطموحات المعلنة لهذا الاقتراح في تحويل الطلاب المهتمين بالفلسفة وغيرها من تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى دورات دراسية أخرى.
بل إن الأمر الأكثر تضليلاً هو الادعاء بأن واضعي الخطة “يشجعون الطلاب على تبني التنوع”. ففي حين أن شهادات العلوم ذات قيمة عالية؛ إلا أنها لا تحسن الكفاءة الثقافية للطلاب بشكل ملحوظ. فالعلوم الإنسانية تحتفي بالتنوع بطريقة لا يمكن مضاهاتها. ومن الخطورة بمكان أن نهمل إسهاماتها المتميزة في ديمقراطيتنا الليبرالية، التي تُـعد واحدة من أنجح التجارب متعددة الثقافات في العالم. وينصب تركيز الحكومة المعلن على إعداد الطلاب لوظائف في القطاعات النامية، إلا أن تدخلاتها المقترحة لا تبشر بالخير. فتنامي قطاع التعليم لا يفسر خفض تكلفة دورات اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات في الوقت الذي تزيد فيه بشكل كبير تكلفة دورات العلوم الإنسانية الأخرى. فخريجو التخصصات التاريخية، على سبيل المثال، لا يقلون استعداداً لممارسة مهنة التدريس عن خريجي اللغة الإنجليزية.
اقرأ أيضاً: هل يستطيع أحد أن يعلن موت الفلسفة؟
وعموماً فإن أحدث تحليل أجرته الحكومة لاتجاهات سوق العمل يورد عشر مجموعات من الصفات التي يرجح أن تكون مطلوبة في المستقبل القريب. وتبذل الوثيقة جهداً شديداً للإشارة إلى أن هذه الصفات “مفيدة في مجموعة متنوعة من الوظائف؛ مما يعني أنها ستلقى تقديراً من قِبل العديد من أرباب العمل المختلفين عبر نطاقٍ واسع من الصناعات والأدوار”. وبالنسبة إلى ثمانٍ أو تسع من هذه الصفات العشر ذات القيمة العالية؛ مثل (“التعلم النشط”، “حل المشكلات المعقدة”، “التفكير المنطقي“) هنالك حجة قوية تؤكد أن الفلسفة توفر تدريباً مساوياً أو أفضل من أي تخصص آخر.

وإذا كان الهدف هو تعزيز النمو، وتعزيز أسواق العمل والمجتمعات المحلية؛ فينبغي دعم الجامعات، التي تعتبر محركاً للنمو. فدعم مؤسسة ما ينطوي على احترام الخبرة التنظيمية التي تراكمت في المؤسسة مع مرور الوقت. إن تقسيم الجامعات إلى كليات وشهادات ودورات دراسية “مؤهلة للعمل” وأخرى “غير مؤهلة للعمل” من شأنه أن يقوض الثقافة الشاملة لإنتاج المعرفة التي تتسم بأهمية بالغة للتميز البحثي في جميع مجالات البحث.
وتعد القابلية للتوظيف أحد الأهداف المهمة للتعليم العالي. ومع ذلك، لا ينبغي السماح لها أن تعلو على الأهداف الأخرى. حتى في ظل الفترات الاقتصادية الضاغطة؛ فالمواطنون المتعلمون هم العمود الفقري للثقافة الديمقراطية. وتماماً كما يحتاج المرء إلى تدريب قبل أن يتمكن من بناء جسر بنجاح، أو إجراء عملية جراحية، أو تدريس فصل دراسي عن التاريخ الأسترالي، فكذلك يحتاج المرء إلى التدريب قبل أن يتمكن من التعبير بنجاح عن الأفكار المعقدة بلغة واضحة، أو تقييم الحجج السياسية بدقة، أو بناء تحالفات بين جماعات المصالح المتباينة المتداخلة.
اقرأ أيضاً: كيف نظر الفلاسفة القدماء إلى معنى الحياة والهدف منها؟
وسوف تتحسن معايير الخطاب العام من خلال توسيع نطاق الوصول إلى التدريب الفلسفي في المدارس والجامعات، وستكون فقيرة إلى حد لا يمكن تصوره في عالم مستقبلي؛ حيث يحتك عدد أقل بكثير من المواطنين بالفلسفة بصورة مجدية. ويشعر بعض الناس بالتفاؤل تجاه البحوث التي تشير إلى أن اختيار الطلاب للمقررات الدراسية لم يتأثر نسبياً بتعديلات الرسوم. وهذا يعني ضمنياً أن خطة الحكومة من غير المرجح أن تكون فعالة في إبعاد الطلاب عن العلوم الإنسانية. لكن الحوافز تشكل أهمية كبرى، والحوافز المالية تشكل أهمية أكبر بالنسبة إلى الأشخاص الأقل حظاً من الناحية المالية.

وحتى إذا كان التأثير العام على توزيع تسجيلات الالتحاق هامشياً، فإن هذا التغيير الهامشي سوف يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. فالطلاب الفقراء، الذين هم أكثر تقييداً لاحتمال ارتفاع ديون رسوم التعليم العالي، سوف يتمتعون بحرية أقل في اختيار دورات الدراسة. كما يهدد الاقتراح بتعميق الحروب الثقافية التي تُغرق السياسة في ضغائن مثيرة للشفقة من خلال ترسيخ الاختلافات الطبقية في التجربة الفكرية والمنظور.
ويتعين على الحكومات الديمقراطية، والناخبين الذين تمثلهم، أن يواجهوا على نحو متزايد قضايا أخلاقية بالغة التعقيد، والتي لم يسبق مثيل للعديد منها. على سبيل المثال، القضايا المتعلقة بكيفية التعامل مع تغير المناخ، والتوزيع العادل للتكاليف المترتبة على الأوبئة، والاستجابة لأزمات اللاجئين. فلا يمكن تحقيق تقدم في ما يتعلق بتلك المشكلات الأخلاقية من خلال البحوث العلمية والتكنولوجية فقط؛ لأن هذه القضايا هي جوهر موضوع الفلسفة الأخلاقية والسياسية.
اقرأ أيضاً: المغرب يلغي تدريس مادة الفلسفة.. هل هي ضرورية حقاً؟
وتتمثل إحدى نتائج مجالنا المميز وطريقة تدريسنا في الدور الذي نلعبه في غرس الفضائل الديمقراطية. والواقع أن طلاب الفلسفة يؤثرون بشكل خاص في إدارة الطلاب؛ لأنهم على وجه التحديد فعَّالون في التواصل ووضع الاستراتيجيات والتوصل إلى حلولٍ توفيقية وتنفيذ تغييرات معقولة. وفي حين تشكل تخصصات الفلسفة نسبة ضئيلة من طلاب الجامعات، فإن خريجينا يمارسون تأثيراً مذهلاً في الصحافة والفنون والسياسة والمهن القانونية.

ومن عجيب المفارقات أن العالم يكن احتراماً للفلسفة الأسترالية أكثر بكثير من احترام الحكومة الأسترالية لها. ففي هارفارد وأُكسفورد، وجامعة سنغافورة الوطنية، وكامبردج والسوربون، وتورنتو وبرينستون وإدنبرة، وفي أغلب جامعات النخبة الأخرى حول العالم، تحظى الفلسفة الأسترالية بأعلى قدر من التقدير.
فالفلاسفة الأستراليون؛ مثل بيتر سنجر (برينستون)، وديفيد تشالمرز (جامعة نيويورك)، وراي لانجتون (كامبريدج)؛ هم أسماء مرموقة في العديد من الأماكن. والطلاب من جامعاتنا يواصلون بشكل روتيني الدراسة للالتحاق بدرجات الدراسات العليا، والحصول على الوظائف المهنية في أرفع المؤسسات رقياً في العالم. والواقع أن تقليص معدلات الالتحاق ببرامج الفلسفة، والاعتماد على الأفكار الضحلة حول عدم جدوى دراسة الفلسفة، من شأنهما أن يقوِّضا فرعاً من فروع العلم لا بد أن يشكل مصدراً للفخر الوطني.
اقرأ أيضاً: ستيفن هوكنج.. حينما ينشغل الناس بالتكفير ويتجاهلون التفكير!
ويأتي الهجوم الذي تشنه الحكومة على العلوم الإنسانية في وقتٍ بالغ الصعوبة؛ حيث يأخذ الموظفون على عاتقهم عملاً إضافياً غير مدفوع الأجر لتيسير الانتقال العاجل وبالغ الصعوبة إلى التعلم عبر الإنترنت نتيجة لوباء (كوفيد-19). ويعد هذا الانتقال أصعب بشكل ملحوظ بالنسبة إلى مواد مثل الفلسفة التي ينطوي تدريسها على حوار ومناقشة منظمَين؛ ولا يمكننا ببساطة أن نكتفي بنشر المحاضرات على الإنترنت والاختبارات الآلية والادعاء بأن طلابنا يقومون بعملهم بشكل صحيح. ويأتي هجوم الحكومة أيضاً على خلفية الخسائر الفادحة للموظفين العرضيين وخبراتهم الواسعة؛ والتي قد لا يتم تعويضها أبداً.
إن القطاع الجامعي يواجه خسائر وظيفية قصيرة الأجل تزيد على عشرين ألف وظيفة. وفي هذا الوقت الذي يتسم بحالة تقهقر كبيرة بالنسبة إلى ثالث أكبر صناعة تصدير في أستراليا -وهي صناعة لا يتجادل أكثر منتقديها حماساً حول دورها في الابتكار والإنتاجية- تعمل الحكومة على خفض الدعم المقدم لكل طالب، ورفض الوصول إلى مخطط الحفاظ على الوظيفة، وتقويض ثقة الجمهور في قيمة ما نقوم به.
المصدر: إيه بي سي نيتوورك