الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
إفريقيا الوسطى.. من الهيمنة الفرنسية إلى السيطرة الروسية!
لم تمضِ سوى بضعة أيام فقط على تخلي فرنسا عن عملية (برخان) في مالي حتى أعلنت تعليق مساعداتها المالية وتعاونها العسكري مع جمهورية إفريقيا الوسطى.. فما الأسباب؟

كيوبوست- عبدالجليل سليمان
قبل أيامٍ قليلة من إعلان فرنسا تجميد مساعداتها وتعاونها العسكري مع إفريقيا الوسطى، الدولة الحبيسة الهشة التي تقع وسط القارة الإفريقية، كانت صورة المواطن الفرنسي “خوان ريمي كينيولوت”، 55 عاماً، وهو يجلس بيدَين مقيدتَين خلف ظهره على العتبة الأولى من دَرَج البوابة الخارجية لأحد أقسام شرطة بمدينة (بانغي) عاصمة إفريقيا الوسطى، وأمامه بندقية هجومية من نوع “M-16″، وبندقية قنص ومسدس وذخيرة ومعدات تخييم، وبنادق وذخائر، تشعل مواقع التواصل الاجتماعي، وتشغل وسائل الإعلام المحلية والعالمية.
اقرأ أيضاً: دلالات وتداعيات إنهاء عمليات “برخان” ضد الجهاديين في منطقة الساحل
ولد “خوان ريمي كينيولوت” في تونس 1966، وعمل في جمهورية إفريقيا الوسطى لثماني سنوات في مجال الأمن الخاص؛ حيث ظل يقدِّم خدمات الحماية للعديد من المنظمات غير الحكومية، وفقاً لمجلة “جون أفريك” التي أكدت أن جواز سفر “كينيولوت” كان يحوي تأشيرة سفر إلى جمهورية مالي، تمتد صلاحيتها من 11 نوفمبر 2020 إلى 11 مايو 2021.

مصدر أمني سوداني رفيع، قال لـ”كيوبوست”: إن الفرنسي المعتقل معروف لدى السلطات الأمنية السودانية، وإنه يعتبر الرجل الأجنبي الثاني في جمهورية إفريقيا الوسطي من حيث الثقل الأمني بعد الروسي “زاخاروف”، وقد ظهر بصفة صحفي في وسائل إعلام عديدة؛ من بينها قناة “الجزيرة” القطرية، حيث عمل مستشاراً إعلامياً لصالحها خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إفريقيا الوسطى، ديسمبر 2020.
المصدر الأمني السوداني، الذي طلب حجب اسمه، أشار لـ”كيوبوست” إلى أن علاقة ذات طابع استشاري أمني ربطت بين “كينيولوت” وقادة ميليشيا سيليكا التي كانت تقاتل الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي، وبفضلها تمت إطاحته في 2013، لربما هذا هو السبب الذي جعل الرئيس الحالي “فوستان تواديرا”، يخشاه، فدبَّر له مكيدة؛ غالباً بتوصية وتخطيط من مستشاره الأمني الروسي “فاليري زاخاروف”.
اقرأ أيضاً: أبوبكر شيكاو الإرهابي الأكثر وحشية.. هل مات منتحراً؟
انحسار النفوذ الفرنسي:
لم تمضِ سوى بضعة أيام فقط على تخلي فرنسا عن عملية (برخان) في جمهورية مالي بغرب إفريقيا، حتى أعلنت تعليق مساعداتها المالية وتعاونها العسكري مع جمهورية إفريقيا الوسطى، 8 يونيو 2021، ثم ما لبث أن ظهر وزير خارجيتها “جان إيف لودريان”، الجمعة 18 يونيو 2021، أمام أجهزة الإعلام، مُعلناً أن روسيا شرعت في الاستيلاء على السلطة في جمهورية إفريقيا الوسطى عبر مَن سمَّاهم بمرتزقة مجموعة فاغنر.

يقول محمد عبدالباقي فضل السيد، الباحث السياسي في الشؤون الإفريقية، خلال تعليقه لـ”كيوبوست”: يعتبر عام 2018 بداية انحسار النفوذ الفرنسي على إفريقيا الوسطى بعد دخول روسيا كمنافس قوي لها، إلا أن الهيمنة الروسية الحقيقية على بعض مراكز القوى في الجمهورية الهشة وضحت فعلياً عام 2020 عندما عززت روسيا وجودها العسكري والأمني بمئات العناصر، بناءً على طلب من الرئيس “تواديرا”.
يواصل فضل السيد: رغم أن باريس لديها تاريخ طويل من التدخلات العسكرية في إفريقيا الوسطى، كان آخرها خلال الحرب الأهلية، 2016، وأكثر من 300 جندي فرنسي لا يزالون يرابطون هناك؛ فإن موسكو تمكَّنت فعلياً من تطويقها وإضعاف نفوذها، خصوصاً في العاصمة بانغي، ووسط النخبة العسكرية والسياسية والقبلية الحاكمة، الأمر الذي ضاعف من حدة التوتر بين البلدَين المتنافسَين على الموارد الضخمة غير المستغلة -بسبب الحرب الأهلية- التي تتمتع بها إفريقيا الوسطى؛ كالألماس واليورانيوم والذهب والنفط والأخشاب، لدرجة جعلت الرئيس الفرنسي ماكرون، يتهم روسيا علانيةً بالترويج للمشاعر المعادية لبلده.

كالمستجير من الرمضاء بالنار
بالنسبة إلى فضل السيد، فإن الوجود الفرنسي في هذه الجمهورية الإفريقية، سيظل قائماً على المستوى الثقافي والوجداني؛ لكن علينا أن نقول إن باريس قد فشلت على المستويين السياسي والعسكري وتقاعست بصفتها مُستعمرة لهذا البلد عن خلق دولة مستقرة وقوية، وأكثر من ذلك ظلَّت تغذي وتلهب الصراعات الداخلية، وتُجهض كل التوجهات الديمقراطية وتتحالف مع الحكام المستبدين، كما لم تنشئ طوال 50 عاماً من استعمارها لإفريقيا الوسطى (1910- 1960)، أي نوع من البنى التحتية والخدمات الصحية والتعلمية إلا في نطاق محدود، كما كرَّست الفوارق الدينية بين المسلمين والمسيحيين؛ بحيث جعلت من الفئة الأخيرة “نخبة” أورثتها الحكم من بعدها، ما مثَّل سبباً رئيساً لفشل دولة ما بعد الاستقلال في هذه الجمهورية المنسيِّة.
اقرأ أيضاً: ترحيب دولي بانضمام الإمارات إلى جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا
بطبيعة الحال؛ “لن تكون روسيا أفضل من فرنسا في شيء، إن لم تكن أسوأ”، يؤكد فضل السيد، ويستطرد: لكن عملها الدؤوب على استقرار الأوضاع الأمنية، ومساعدة الحكومة القائمة على علاتها في حسم التمردات وجمع السلاح ومصادرته من كل المجموعات ووضعه بيد الدولة والعمل على توحيد الجيش، كلها أمور تجد دعماً شعبياً كبيراً.

رهينة فاغنر
من جهتها، وصفت الصحفية والمحللة السياسية خالدة ودّ المدني، رئيسَ إفريقيا الوسطي “فوستان آرشانج تواديرا”، برهينة فاغنر؛ ناسبةً هذه العبارة إلى الرئيس الفرنسي ماكرون، في إشارة إلى سيطرة شركة المرتزقة الروسية الشهيرة التي يديرها رجل أعمال مقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأضافت ود المدني، في حديثها إلى “كيوبوست”، أن الحكومة الروسية نفسها توفر لتواديرا حماية شخصية قوية عبر رجل مخابراتها ومستشار الأمن القومي في إفريقيا الوسطى، “فاليري زاخاروف”؛ الأمر الذي مكَّنه من فرض هامش معقول من السيطرة الأمنية على البلاد، وأسهم في إعادة انتخابه في يناير الماضي، بعد حصوله على 53% من الأصوات التي أدلى بها 35% من الناخبين المسجلين.

واعتبرت ود المدني التنافس الفرنسي- الروسي للسيطرة على منطقة الساحل وجمهورية إفريقيا الوسطى، هدفه الموارد الضخمة في هذه المنطقة؛ خصوصاً إفريقيا الوسطى، وأشارت إلى أن روسيا لم تتدخل بداية عبر (فاغنر) كما تحاول الحكومة الفرنسية تصوير الأمر؛ فقد حصلت بالفعل على استثناء من الأمم المتحدة التي تفرض حظراً على بيع وتوريد الأسلحة إلى هذا البلد الإفريقي المأزوم؛ لكنها استغلت لاحقاً هذا الاستثناء وجاءت بـ(فاغنر) من أجل بسط نفوذها وهيمنتها على مفاصل الأمن والاقتصاد والموارد، مقابل الدعم العسكري والأمني السخي الذي تقدمه لبانغي، مثل إبرام اتفاقات حماية أمنية دون أعباء مالية، ويُستعاض عنها بمنح امتيازات لشركات روسية للتنقيب عن المعادن النادرة والنفط، وبالفعل وبفضل (فاغنر) تمكَّنت الحكومة من استعادة أراضٍ شاسعة كانت تُسيطر عليها المجموعات المسلحة منذ اندلاع الحرب الأهلية، 2013، كما أرسلت موسكو قوات إضافية إلى بانغي نهاية العام الماضي؛ لحماية الرئيس تواديرا من هجوم وشيك كانت مجموعات متمردة مناوئة تخطط لشنه عليه؛ للحيلولة دون إعادة انتخابه؛ لكنها أمسكت خشية من هزيمة ساحقة على يد القوات الروسية، التي تُقدر تقارير متطابقة، من مصادر مختلفة، عددها بنحو أكثر من 3 آلاف فرد، بينما لا تعترف روسيا إلا بــ”1135″ من المُدرِبين غير المُسلحين.
اقرأ أيضاً: الحضارة السودانية المسروقة.. كنوز أثرية في المتاحف الأوروبية

اضرب واهرب
وتلفت ود المدني إلى أن خبراء دوليين أعربوا مراراً عن خوفهم جراء تواتر أنباء من مصادر محلية، تشير إلى حدوث عمليات قتل وتعذيب خارج القانون وغسيل أموال، تقوم بها مجموعة (فاغنر) الروسية؛ من أجل هيمنة طويلة المدى أشبه بالاحتلال غير المباشر، أو الاستعمار بواسطة عملاء محليين؛ مثل الرئيس الحالي، حسب هؤلاء، “غير أنني لا أتصور أن روسيا تسعى لتحقيق نفوذ طويل المدى وهيمنة شبه دائمة على إفريقيا الوسطى لجهة أنها عكس الدول الغربية الاستعمارية؛ تفتقر إلى رؤية استراتيجية في تعاملها مع الدول الإفريقية”؛ إذ تتخذ علاقتها معها أسلوباً براغماتياً أشبه بمقولة (اضرب واهرب)، تأخذ حصة ضخمة من الموارد مقابل حماية النظام الحاكم، وفرض حالة من الأمن والاستقرار بالقوة القاهرة، وتنصيب عملائها حكاماً، “ثم تخرج بظن أن الأمور ستمضي على النحو الذي رسمته، لتنهار الأوضاع مجدداً إلى أسوأ مما كانت عليه من قبل”، تختتم ود المدني.