الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة

إرنست همنغواي.. الغائب الحاضر!

توبايس وولف: لقد قرأت قصص همنغواي مرات عديدة على مر السنين.. وأعطيتها لأولادي وطلابي.. ولا يزال أفضلها جديداً بالنسبة إليَّ كما كانت عندما قرأتها للمرة الأولى

كيوبوست- ترجمات

توبايس وولف♦

في الثاني من يوليو 1961، كنت جالساً في سيارتي في موقف السيارات التابع لشركة “كونفير أسترونوتيكس”، أستمع إلى الموسيقى من راديو السيارة بينما كان أخي الأكبر جيفري، يجري مقابلة للحصول على عمل في الشركة التي كان يعمل بها والدي قبل أن يدخل المستشفى. أصبح عبء إعالتنا الآن يقع على كتف جيفري الذي تخرج للتو في جامعة برينستون. كنت في السادسة عشرة من عمري، ولم أحظ إلا بتعليم متواضع؛ لذلك أخذ جيفري على عاتقه أيضاً مسؤولية إعدادي لخوض تجربة المدرسة الداخلية في بنسلفانيا.

اقرأ أيضاً: لا تلغوا شكسبير!

توقفت الموسيقى وأُذيع خبر انتحار إرنست همنغواي. لم أكن أعرف أسماء العديد من الكتاب المعاصرين؛ ولكن شهرة همنغواي كانت قد وصلت إليَّ، كانت صوره تظهر في الصحف، وفي رحلات صيد في إفريقيا، ومن على متن قاربه في فلوريدا، أو يغادر مباراة ملاكمة في ماديسون سكوير، أو جالساً إلى آلته الكاتبة. كنت أعلم أنه شخص مهم مثل ونستون تشرشل أو جون واين أو ميكي مانتيل.

إرنست همنغواي في رحلة صيد مع ابنه غريغوري عام 1941- “ماغنوم فوتوز”

على الرغم من شهرة همنغواي؛ فإن قلة من معارفي كانت قد قرأت له، وأنا نفسي لم أكن قد قرأت له إلا «العجوز والبحر» وقصته القصيرة «القتلة». أذهلتني اللهجة المتشائمة والحوار القاسي بين القاتلَين اللذين كانا ينتظران الملاكم أولي أندرسون في المطعم، وأدهشتني لا مبالاة أولي عندما جاء نيك ليحذره. كان واضحاً أن المقاتل لم يكن راغباً في القتال والفوز على الأشرار. إنه يستسلم. انتهت القصة وبقيت كل الأمور معلقة، لم يكن هناك أي حل؛ القصص التي اعتدت على قراءتها لم تكن تنتهي بهذه الطريقة.

عاد جيفري من مقابلته مبتهجاً؛ فقد حصل على الوظيفة. أخبرته بما سمعت، فتجهم وجهه كمن أُصيب بصدمة؛ كان واضحاً أن أخي تأثر بشكل شخصي بالخبر، وفي الأيام التالية وجد عزاءه في دفعي لقراءة بعض من قصص همنغواي القصيرة.

اقرأ أيضاً: هل يمكن فهم ظاهرة الانتحار من خلال الأعمال الأدبية؟

استعصت عليَّ المعاني الخفية لقصص همنغواي؛ ولكنني استجبت لوضوح سردها وتجسيدها المطلق: برودة الجدول، ضربات قماش الخيمة على الأرض، ورائحة القماش داخل الخيمة، تعليق الجندب على صنارة الصيد، طعم شراب المشمش، والشعور بالماء يدغدغ يدك وأنت في زورق متحرك. كانت تلك كلها أشياء مألوفة بالنسبة إليَّ؛ ولكن همنغواي أعطاها أهمية جديدة، ألهمتني حقيقة أن الأشياء اليومية المألوفة يمكن أن تكون مادة أدبية، وأن سرد أحداث يوم عادي يمكن أن تحمل هذا القدر من الإلهام.

إرنست همنغواي في إفريقيا- أرشيف

لم تنتهِ تجربتي مع همنغواي بوصاية أخي؛ فقد كانت قصصه ورواياته حاضرة في صفوف اللغة الإنجليزية في مدرستي الجديدة، حيث كان ينظر الأساتذة والطلاب على حد سواء بالكثير من الاحترام؛ ما زلت أذكر محاولة الأستاذ باترسون تصحيح خطأنا الشائع في حشو مقالاتنا بزخارف شعرية وعبارات منمقة التي كنا نسكبها في جمل طويلة لا تنتهي. كان السيد باترسون يطلب منا مراجعة وتحرير نصوصنا؛ ولكننا كنا نتردد في قتل بنات أفكارنا. وذات يوم في محاولة منه لإيقاظ القتلة الكامنين بداخلنا، أعطى السيد باترسون كل واحد منا صفحتَين لكاتب مجهول، وقال لنا إن الصفحات مأخوذة من روايات شهيرة، وطلب منا أن نحرر المقاطع وغادر الغرفة. كان هذا شيئاً جديداً؛ كان من المفترض أن ندرس الكتَّاب، وأن نستخلص المعاني الخفية التي يخفونها بمكر، وأن نعجب بمهارتهم في إخفائها. لم يطلب منا من قبل أن نحرر كاتباً أو أن نصحح كتابته.

اقرأ أيضاً: هل تكفي ترجمة الكلاسيكيات بين الأدبَين العربي والروسي؟

كان أحد المقطعين يشغل معظم الصفحة، وبعد قليلٍ من التردد شعرت بنوع من فرحة التجديف؛ فقد كنت أصحح رواية مشهورة. في الحقيقة كانت الكتابة فظيعة، جمل طويلة متضخمة وعديمة الجدوى، ووجدت متعة جديدة في تتبع أخطائها، وحذف كلمات وعبارات وحتى جمل بأكملها، وفي تقسيم المقطع الطويل إلى مقطعَين. ووجدت أن نسختي النائية كانت أفضل بكثير.

صحيفة “دايلي نيور” تعلن خبر انتحار إرنست همنغواي في 3 يوليو عام 1961- أرشيف

انتقلت إلى المقطع الثاني، لم أكن قد قرأته من قبل؛ ولكنني اعتقدت أنه لهمنغواي. بذلت جهدي في العمل عليه ولكن لم يكن هنالك من داعٍ للتحرير. وحتى بوجود الترخيص من السيد باترسون، وبوجود الروح العدوانية الانتقامية التي تأججت فيّ لم أقدر على فعل أي شيء سوى إضافة بعض الفواصل؛ فقط لأظهر أنني فعلت شيئاً. لقد كانت للنص نغمته الخاصة، موسيقاه، وشخصيته الكاملة. لم يكن بحاجة إلى الترقيع. ربما كنتُ لا أزال تحت تأثير تعاليم أخي، وحبه واحترامه لكتابات همنغواي. وربما لا يزال كذلك إلى الآن؛ لأنني حتى يومنا هذا لن أغير كلمة من كلمات ذلك المقطع الذي أخبرني السيد باترسون عند عودته أنه كان من رواية لجيمس فينيمور نسيتُ عنوانها.

اقرأ أيضاً: رواية «الصقر» لجيلبير سينويه تستلهم حياة مؤسس اتحاد الإمارات العربية

لم يكن همنغواي حاضراً في صفوف الدراسة فقط؛ بل في حياتنا أيضاً كنموذج لنوع معين من الرجولة. علمنا أنه حارب وأُصيب في الحرب العالمية الأولى، وشهد حروباً أخرى وكتب عنها، وأنه كان رياضياً، وصياداً، وأنه أحب الملاكمة، ومن خلال زيجاته المتعددة علمنا أنه كان محباً للنساء. حتى بعد موته كان حضوره قيادياً. حاولنا ألا نكتب مثله، مدركين أننا سنضع أنفسنا في موضع السخرية إذا فعلنا؛ ولكن حتى مع تنصلنا الواعي من تأثيره لا بد لنا من الاعتراف بالقوة الفريدة المعدية لأسلوبه.

كان أساتذة اللغة الإنجليزية يفضلون إعطاءنا قصص همنغواي القصيرة أكثر من رواياته؛ فقد كانت مادة أسهل للمناقشة في الحصص الدراسية، حيث يمكن النظر فيها خلال يومين أو ثلاثة بدلاً من أسابيع عدة. كم أحببت تلك القصص، أحببت دقتها ونقاءها وثقتها في القارئ، تلك الثقة التي وجدتها لاحقاً في قصص تشيخوف وجويس وكاثرين آن بورتر؛ حيث تركت أشياء مهمة دون أن تُقال، ولكن كان يمكن أن تشعر بها. فالكاتب يترك للقارئ مهمة إكمال الدائرة انطلاقاً من القوس الذي أعطاه له، وأن يتآمر مع القصة في تخيل ما سبقها وما قد يليها.

نسخة قديمة من كتاب «موت بعد الظهر» لإرنست همنغواي ترجع إلى عام 1932

لقد قرأت قصص همنغواي مرات عديدة على مر السنين، وأعطيتها لأولادي وطلابي، ولا يزال أفضلها جديداً بالنسبة إليَّ كما كانت عندما قرأتها للمرة الأولى. في أعماله اللاحقة؛ ولا سيما في رواياته، يمكننا أن نرى الكاتب همنغواي يستسلم أحياناً للشخصية التي يرسمها، الشخصية التي نطمح إليها نحن الأولاد، الصارم، قليل الكلام، العارف، المكتفي بذاته، والمتفوق. يمكن لهذا أن يتسرب إلى العمل، فيرسم شخصياته الرئيسية في صورة كاريكاتيرية. ولكنك لا تجد شيئاً كهذا في قصصه. في الواقع إن أكثر ما أدهشني في قصصه هو إنسانيتها وإحساسها بهشاشة الإنسان.

قال روبرت فروست إن ما يتمناه الشاعر هو أن يكتب بضع قصائد جيدة بما يكفي لأن تعلق بعمق في ضمير القارئ؛ بحيث لا يمكن نزعها. وقصص همنغواي قد علقت عميقاً في ضميري.

♦روائي وكاتب قصة قصيرة، ومدرس الأدب الإبداعي في جامعة ستانفورد.

المصدر: ذا نيويوركر

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة