الواجهة الرئيسيةشؤون دولية

أين تركيا في حروب العرب ضد إسرائيل؟

أنقرة تواصل سياساتها الرامية إلى المتاجرة بالقضية الفلسطينية من أجل تعزيز شعبيتها في العالم العربي.. دون أن تتبنى أية خطوة عملية دفاعاً عن القضية الفلسطينية ما لم يرتبط ذلك بتحقيق مكاسب لتركيا

كيوبوست

حافظت تركيا الكمالية، منذ تأسيسها على يد كمال أتاتورك في عام 1924، على توجهها الغربي؛ حيث نظرت أنقرة إلى نفسها باعتبارها جزءاً من الحضارة الغربية، فلم تعد منطقة الشرق الأوسط ضمن أولويات سياستها الخارجية؛ بل وانعكس ذلك في موقفها من القضايا العربية، إذ ظلت مواقفها تابعة ومرتبطة بالتوجهات الأمريكية، كما في معارضتها للثورة الجزائرية، أو انضمامها إلى حلف بغداد، والذي كان أحد الأحلاف العسكرية الذي سعت واشنطن لتأسيسه في المنطقة لمواجهة النفوذ السوفييتي[1].

ومع تولي حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، ذهب بعض الأبحاث والدراسات إلى تتبع التحول الحادث في العلاقات التركية- الإسرائيلية ارتباطاً بوصول حزب إسلامي إلى الحكم في تركيا. وسعى بعض المحللين الأتراك إلى محاولة إضفاء الشرعية على علاقة تركيا بإسرائيل عبر التأكيد أن العلاقات بينهما كانت تزدهر ارتباطاً بدخول إسرائيل في محادثات سلام مع الفلسطينيين، وتتدهور العلاقات بينهما في حالة انسداد أفق التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، غير أن الواقع العملي يكشف عن أن القضية الفلسطينية لم تكن متغيراً حاكماً أو مؤثراً على مسار تطور العلاقات بين الجانبين؛ بل إن الاعتبارات المصلحية لتركيا كانت المحدد الرئيسي لتطور علاقاتها بإسرائيل.

وفي ضوء الافتراض السابق، يمكن القول إن التصريحات الرسمية التركية المعادية لإسرائيل أحياناً، والمناصرة للقضية الفلسطينية لم تؤثر سلباً على العلاقات الإسرائيلية- التركية، وإن أنقرة كانت تعمد إلى توظيف خطابها المناهض لإسرائيل؛ بهدف الاستفادة من مركزية القضية الفلسطينية لدى الرأي العام العربي، وتعزيز شعبيتها بين شعوب المنطقة العربية. ويتم اختبار الفرض السابق من خلال تتبع مسار التعاون الأمني والاقتصادي بين إسرائيل وتركيا، وما إذا كانت تضررت جراء دفاع تركيا عن القضية الفلسطينية كلامياً، أم لا.

اقرأ أيضًا: أردوغان يناقض شعاراته ويسمح للطيران الإسرائيلي بالهبوط فوق أراضيه

علاقات استراتيجية عميقة

مثَّلت القضية الفلسطينية إحدى الأوراق التي سَعت أنقرة للتضحية بها؛ من أجل تعزيز انضمامها إلى الأحلاف الغربية، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية اعترفت بإسرائيل رسمياً في 28 مارس 1949، لتحقيق هدفَين أساسيَّين؛ وهما كسب تأييد اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وذلك في مواجهة اللوبي اليوناني والأرمني المعادي لتركيا؛ خصوصاً مع سعي أرمينيا للضغط على الكونجرس الأمريكي لاعتبار المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى جريمة “إبادة جماعية”. كما كانت أنقرة تسعى إلى توظيف علاقاتها بإسرائيل؛ باعتبارها رصيداً إضافياً يمكن أن يسهم في دمجها في منظومة الأحلاف العسكرية الغربية، وهو ما تحقق بانضمامها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي في عام 1952[2].

وكانت أنقرة تعي جيداً أن تحالفها مع إسرائيل كان يحقق الأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية، والتي تتمثل في العقيدة الشهيرة التي أرساها أول رئيس وزراء لإسرائيل في عام 1958، وصاغها تحت اسم “التحالف مع الهوامش” (Periphery Pact)؛ أي التحالف مع الدول المعادية للدول العربية، على غرار إيران (قبل الثورة الإسلامية في عام 1979) وتركيا وإثيوبيا؛ وذلك بهدف إضعاف الدول العربية المناوئة لها، وتحديداً مصر وسوريا والعراق، والتي خاضت حروباً عسكرية متتالية في مواجهة إسرائيل؛ لتحرير الأراضي العربية المحتلة.

ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل – أرشيف

وحتى في المراحل التي دعمت فيها تركيا الدول العربية في مواجهة إسرائيل، لم يكن ذلك نابعاً من إيمانها بعدالة القضية الفلسطينية؛ بل لاعتبارات مصلحية خاصة بها، فحينما رفضت تركيا منح الهبوط والمرور للطائرات الأمريكية التي تحمل إمدادات عسكرية لإسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973، كان ذلك لاعتبارات تتعلق بخوفها من أن يؤدي ذلك إلى إغضاب الدول العربية، أو الاتحاد السوفييتي عليها، فضلاً عن كونها رسالة احتجاج تركية على الموقف الأمريكي المناهض لها في صراعها حول قبرص[3].

ويلاحظ أن أول موقف دبلوماسي تركي لدعم القضية الفلسطينية، جاء في النصف الثاني من السبعينيات من القرن العشرين، وذلك حينما اعترفت تركيا بمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1975، وسمحت لها بإقامة تمثيل دبلوماسي لها في أنقرة في عام 1979، ولم يرتبط هذا التحوُّل التركي حينها برغبتها في دعم القضية الفلسطينية؛ ولكن ارتبط بعاملين أساسيَّين، هما: رغبة أنقرة في الحصول على الدعم العربي في صراعها مع اليونان حول قبرص، ورغبتها في شراء النفط العربي الرخيص؛ لتحجيم الاختلال في ميزان المدفوعات التجاري التركي[4].

وتعززت العلاقات التركية- الإسرائيلية، أكثر فأكثر، خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، حتى انتهت بتوقيع اتفاق تعاون عسكري في عام 1998، كما كان البلدان على وشك إقامة تحالف غير رسمي ضد سوريا والعراق وإيران؛ بسبب امتلاكهما نفس التصورات حيال التهديدات النابعة من الدول الثلاث[5].

اقرأ أيضًا: 440 ألف إسرائيلي دخلوا تركيا خلال 2018

وما أسهم في تعزيز التحالف بين الطرفين، هو قيام إسرائيل بتحديث المقاتلات التركية، بالإضافة إلى تبادل المعلومات الاستخبارية، ويلاحظ أن وتيرة هذا التعاون قد تضاعفت في التسعينيات، وإن كان من الملاحظ أن التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين كان قائماً طوال الفترة الممتدة منذ الخمسينيات من القرن العشرين، وحتى عام 1990.

كما أنه خلال عقد التسعينيات، وكذلك خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، كانت تركيا تستضيف القوات الجوية الإسرائيلية؛ كي يقوموا بتدريباتٍ على التحليق لفترة زمنية طويلة[6]. ويلاحظ أن تحسن العلاقات بين الجانبين لم يتأثر بانهيار محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال عامَي 2000 و2001، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000[7].

ويتضح من عمق التعاون الأمني بين الجانبين أن أولويات الأمن القومي التركي لا تكترث بأولويات الأمن القومي العربي، والذي يرى أن إسرائيل، بسياستها التوسعية، تمثل تهديداً للدول العربية المجاورة لها، كما أنها تعيق تحقيق الاستقرار في المنطقة؛ بسبب استمرار رفضها الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.

تعاون اقتصادي وثيق

على الرغم من تدهور العلاقات بين تركيا وإسرائيل على المستوى الدبلوماسي والإعلامي؛ فإن مستوى العلاقات الاقتصادية بين الجانبين كان قوياً، وتتعدد المؤشرات على ذلك؛ إذ إن الخطوط الجوية التركية هي ثاني أكثر خطوط الطيران تردداً على مطارات إسرائيل، بعد شركة “العال” الإسرائيلية؛ إذ تقوم الشركات التركية، وتحديداً الخطوط الجوية التركية، وشركة “بيجاسوس” التركية، بأكثر من 12 رحلة جوية يومياً بين تل أبيب وإسطنبول[8].

طائرة العال الإسرائيلية تحط في مطار اسطنبول – مايو 2020

ومن أجل تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، خطَّط البلدان لإقامة مشروع خط أنابيب البحر الأبيض المتوسط الذي تبلغ تكلفته عدة مليارات من اليوروهات، والمعروف باسم “ميد ستريم” (Med Stream)، في عام 2008. ويتمثل الهدف طويل الأجل في إنشاء نظام خطوط أنابيب متطور لتسهيل تبادل الكهرباء والغاز الطبيعي والنفط والمياه[9].

وعلى الرغم من تضرر العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في أعقاب حادث السفينة التركية “مافي مرمرة” في عام 2010، وما أعقب ذلك من تصريحاتٍ عدائية من جانب الرئيس التركي؛ فإن أنقرة هرولت لتحسين علاقاتها بإسرائيل في عام 2016؛ خصوصاً مع التدهور الحادث في العلاقات بين أنقرة وموسكو، بعد إقدام الأولى على إسقاط مقاتلة روسية قرب الحدود التركية.

ونظراً لخوف أردوغان من أن تقوم روسيا بقطع صادرات الغاز الطبيعي لتركيا في أعقاب الحادث، والتي تمثل نحو 60% من إجمالي الواردات التركية من الغاز الطبيعي، لجأت أنقرة إلى تحسين علاقاتها بإسرائيل؛ لتأمين مصادر بديلة لإمدادات الغاز الطبيعي. كما كان لاكتشاف تل أبيب الغاز الطبيعي في شرق المتوسط عاملاً في الحسابات التركية؛ إذ كانت أنقرة تسعى لنقل الغاز الإسرائيلي عبر خطوط نقل الغاز إلى تركيا؛ ومنها إلى الدول الأوروبية.

اقرأ أيضًا: إحصائيات رسمية تكشف: تركيا الداعم الأول للاستيطان الإسرائيلي

أما عن حجم التبادل التجاري بين الجانبين، فيلاحظ أنه شهد زيادة مضطردة؛ بل ولم يتأثر قط بالتصريحات الدعائية لرجب طيب أردوغان ضد إسرائيل، ووفقاً لمؤشر “كثافة التجارة”، زادت الصادرات التركية إلى إسرائيل بمقدار 10,38 ضعفاً خلال الفترة من عام 1995، وحتى عام 2015، بينما زادت أنقرة وارداتها من إسرائيل بنسبة 9,28 ضعفاً، وزاد حجم التبادل التجاري بين البلدين بمقدار 9,93 ضعفاً، وهو ما يوضح أن العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثر على مدار أكثر من 12 عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي؛ بل تعمقت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين[10].

وتشير بيانات التجارة المعلنة بين البلدين، وفقاً للبنك الدولي، إلى بلوغ الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا نحو 3,9 مليار دولار في عام 2018، في حين قدرت الصادرات التركية إلى إسرائيل بنحو 1,7 مليار دولار[11]؛ وهو ما يؤكد مواصلة تركيا تعزيز علاقاتها الاقتصادية بإسرائيل، وعدم تضررها بالتصريحات العدائية لأردوغان.

رجب طيب أردوغان – وكالات

سياسات شعبوية

بالنظر إلى أن دفاع تركيا خطابياً عن القضية الفلسطينية، لم يؤثر قط على العلاقات التركية- الإسرائيلية، فإنه من الواضح أن تركيا لم تنتهج أية خطوة عملية للدفاع عن القضية الفلسطينية، من شأنها أن تثير حفيظة إسرائيل، وتدفعها إلى إعادة النظر في العلاقات، ومن ثمَّ فإنه من الواضح أن سياسات تركيا العدائية تجاه إسرائيل كانت تستهدف بصورة أساسية تحقيق أهداف أخرى، وهي تعزيز شعبية تركيا في المنطقة العربية، عبر المتاجرة بالقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى محاولة تبرير العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل، ولعل ذلك يتضح في الموقفَين التاليَين:

  • تبرير التعاون مع إسرائيل على أُسس إنسانية: أمدَّت تركيا إسرائيل بمعدات الحماية الشخصية؛ بما في ذلك الأقنعة الجراحية، والقفازات واللباس الواقي، كجزء من صفقة تجارية لمساعدة تل أبيب على مكافحة تفشي فيروس كورونا في أوائل عام 2020. وحاول أحد المسؤولين الأتراك تبرير هذه الصفقة عبر الادعاء بأن أنقرة وافقت على بيع معدات طبية لإسرائيل لأسبابٍ إنسانية، وأن تل أبيب ستسمح لتركيا بتقديم مساعدات مماثلة للفلسطينيين، غير أن الجانب الإسرائيلي فضح الأكاذيب التركية؛ إذ أكد أن الصفقة كانت ذات طبيعة تجارية بحتة، ولم تتضمن أي أبعاد إنسانية، كما أنها لا ترتبط بأية مساعدات مقدمة من الأتراك إلى الفلسطينيين[12].
  • إعلان فتح سفارة لتركيا في القدس الشرقية: زعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن “تركيا هي الصوت الوحيد الذي يدافع عن الفلسطينيين اليوم”، مضيفاً أن “النظام العالمي خذل الفلسطينيين، ولم ينجح في تحقيق السلام والعدالة والأمن والاستقرار في هذا الجزء من العالم”، وذلك رداً على الخطط الإسرائيلية لضم مزيدٍ من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية في أوائل 2020، كما أنه أعلن أنه سيمنع إسرائيل من ضم الأراضي الفلسطينية[13]، وأنه سيقوم بافتتاح سفارة في القدس الشرقية.

ويلاحظ أن هذه التصريحات لم تجد طريقها للتطبيق العملي؛ بل إن الموقف التركي لم يخرج عن الإدانة اللفظية والتصريحات العدائية، بل ولم تسعَ تركيا لتهديد تل أبيب بقطع العلاقات الدبلوماسية، أو تخفيضها، أو تقليص التبادل التجاري بينهما، بل حافظت على نفس وتيرة التعاون السابق، في مؤشرٍ يكشف عن انتهازية تركيا وحرصها على المتاجرة بالقضية الفلسطينية.

وفي الختام، يمكن القول إن أنقرة تواصل سياساتها الرامية إلى المتاجرة بالقضية الفلسطينية؛ من أجل تعزيز شعبيتها في العالم العربي، دون أن تتبنى أية خطوة عملية دفاعاً عن القضية الفلسطينية، ما لم يرتبط ذلك بتحقيق مكاسب لتركيا.

المراجع:

[1] آمال بوساحة، وعبدالله راقدي، العلاقات التركية- الإسرائيلية من منظور العثمانية الجديدة، المجلة الجزائرية للأمن الإنساني، المجلد 5، العدد 2، 2020، 451.

[2] المرجع السابق، 454.

[3] Dan Arbell, The U.S.-Turkey-Israel Triangle, The Center for Middle East Policy at Brookings, Number 34, October 2014, p. 6, https://brook.gs/3jMe6lK

[4] M. Hakan Yavuz and Mujeeb R. Khan, Turkish Foreign Policy toward the Arab-Israeli Conflict: Duality and The Development (1950 – 1991), Arab Studies Quarterly, Vol. 14, No. 4, Fall 1992, p. 73.

[5] Umut Uzer, Turkish-Israeli Relations: Their Rise and Fall, Middle East Policy, https://mepc.org/turkish-israeli-relations-their-rise-and-fall

[6] Ibid.

[7] تاريخ محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بي بي سي، 29 يوليو 2013، https://bbc.in/3byKaXn

[8] Joseph Dana, Turkey and Israel’s deep trade ties expose the emptiness of Erdogan’s rhetoric over Jerusalem, The National, December 21, 2017, https://bit.ly/3lSskU5

[9] Turkey and Israel: Animosity ends when it comes to money, DW, December 2017, https://p.dw.com/p/2pFGz

[10] Ilhan Güllü & Miraç Yazıcı, Describing Turkey- Israel Relationships with Its Trade Dimension, International Journal of Economics, Commerce and Management, Vol. IV, Issue 10, October 2016, https://bit.ly/2Zef2Yi

[11] Turkey: Trade Statistics, Global Edge, https://globaledge.msu.edu/countries/turkey/tradestats/

[12] Turkey to supply Israel with coronavirus protective equipment – report, The Times of Israel, April 2020, https://bit.ly/333BhkN

[13] Erdogan says Turkey ‘won’t allow’ Israel to annex parts of West Bank, The Times of Israel, May 2020,https://bit.ly/2Z6JBzh

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة