الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربيةمقالات

“ألف ليلةٍ وليلة”

كيوبوست

د. نجاة عبد الصمد♦

سوى الكتب المقدسة عند معتنقيها، لم يشغل الناسَ كتابٌ كما فعل “ألف ليلة وليلة”. كتابٌ، متعةٌ لا تنتهي، حكاياتٌ ونوادر وظرائف فاتنة، وكنزٌ أدبيٌّ معرفيّ، غنيمةٌ لقارئه، وخسران لمن لم يفعل. شاغَل حياة الناس لقرونٍ طويلةٍ قبل عصر الجريدة اليومية لاحقاً، ثم مسلسلات رمضان، ثم مواقع التواصل في أيامنا الحاضرة.

هذا الكتاب الإنسانيّ، العابر لحدود الجغرافيا والزمن، ليس كتاباً واحداً. كُتب بالتراكم عبر ألف سنة. وثمة نسخةٌ شامية منه، ومصرية وهندية، وغيرها، وليس أكيداً أنه كُتب بواحدةٍ من هذه اللغات أو بها كلها. حكايات علي بابا والأربعين حرامي، مصباح علاء الدين، رحلات السندباد، الشاطر حسن و… هي نماذج لثقافةٍ شعبيةٍ عظيمة، أصوات شعوبٍ مقهورةٍ تمردت على ظلم وجشع الحكام وأتباعهم، وانتصرت للعامّة والمهمشين، وحتى للصوص والمكّارين في بلاد العرب وفارس والهند.  

ولم يُعرف له مؤلّفٌ أو مؤلّفون، هو أشبه بمنشورٍ مُغفَل التوقيع، زيد عليه مرات ومرات من الشعوب أو ممثليها. هو النسخة البشرية من كليلة ودمنة، والنسخة الشعبية من رسائل إخوان الصفا. وربما لأن المؤلف مجهول فقد نجا من مصير ابن المقفع، ومصير المعتزلة، وحتى المتصوّفة.

وهناك نسخٌ مزيدة وكاملة منه، لكنها غير أمينة. ونسخٌ منقّحةٌ “مهذّبة” كما كُتب على غلافها، بينما على مَن هذّبها أن يعتذر عن انتهاكه الشنيع بحق كتابٍ تراثيٍّ عظيم.

اقرأ أيضًا: جابرييل جارسيا ماركيز: أحاول أن أفسِّر العالم وأخلقُ الفن من تجارب الحياة اليومية

في حياتنا

يتذكر الأطفال حكايات الجدات، أو قصصاً بصوت الأهل، ورسوماً متحركة على شاشة التلفزيون، معظمها من “ألف ليلة وليلة” بينما لا تعلم الجدة ولا الأهل أنها كذلك. معها اكتشف الأطفال متعة القصّ، ولذة الإصغاء وانطلاق الخيال تعاطفاً مع رحلة كفاح أبطال الحكاية، أملهم بإسقاط المكائد عنهم، انتظارهم السعيد لنهايتها، وتخزين ذاكرتهم لها إلى أن يكبروا.

ويتذكر المراهقون بحثهم على بسطات الكتب القديمة عن طبعةٍ غير مهذّبة، ليختلوا بعالمها السريّ بعيداً عن عيون الأهل والمعلمين، ليسافروا في حدائق وقصور مجتمعٍ قديم، مع أغنيائه وفقرائه وأسياده وعبيده وجواريه، خيال الفتيان عن شهرزاد امرأة خارقة الجمال والذكاء، تروّض شهريار الوحش وتطفئ نار الانتقام فيه. حفظهم غيباً لكل جملةٍ فاجرة، أو تدوينها على دفترٍ سرّي ليعودوا إليها وحدهم أو للتداول مع الأصحاب.

وتأتي القراءة الثانية بعد الوعي، قد يلحظ القارئ المعاصر كمّ الحشو والتكرار وتقطّع أسلوب القصّ في بعض المواضع. كذلك يتراجع الجانب الأيروتيكي لصالح المتعة والمعرفة، اتساع الرؤية وانفتاح الآفاق، واكتشاف قدرة الحكاية على إنقاذ حياة، حيوات..

ويتذكر الأدباء كيف انحفرت الليالي في وجدانهم، وأمدّتهم بسلاسة اللغة العربية الفصحى، وحفّزتهم على الكتابة، التوغل في ذاكرة الآخرين. وبفضله اقترفوا الأدب ككذبةٍ جميلةٍ وواجبة، وقادرة على اختراق الزمن.

غلاف كتاب “ألف ليلة وليلة”

قيمة الكتاب

ألف ليلةٍ وليلة طليعة فن الرواية في العالم، على عكس التصوّر السائد عن انطلاق هذا الفنّ من الغرب. وهو شهادةٌ عن حقبةٍ من تاريخ مجتمعات الشرق بمختلف أوجهها الاجتماعية والثقافية والدينية. وهو كذلك، وإن بدا تسليةً، سياسيٌّ بامتياز، يتداول أخبار المُلك وصراع الملوك على السلطة، ويضمر موقفاً سياسياً حقيقياً غير معلن، يخبّئه داخل نسيجه القصصيّ.

وللكتاب قيمةٌ اجتماعية وأخلاقية تربوية، فلم يُعلّل قوة شهرزاد بكونها امرأة جذابة ومشتهاة وذكية وشجاعة وحكيمة وحسب، بل كامرأةٍ كرّست الحب والحكمة في حكاياتها كقيمةٍ عليا، وتسلّلت بالحكاية إلى عقل الرجل وأجبرته على التفكير بعالمٍ أكثر عدلاً أو أقلّ ظلماً، وحوّلت نظرة الرجل إلى المرأة كندٍّ وصنو عقلٍ وروح، حتى نجَت بحياتها ونجّت شهريار من هلوساته. 

اقرأ أيضًا: الديكاميرون.. حكايات من زمن الطاعون

وللكتاب فضلٌ في تاريخ الحكاية الشفهية كفنٍّ أصيلٍ في ثقافتنا العربية، (إلى جانب تغريبة بني هلال، والظاهر بيبرس، وسيرة سيف بن ذي يزن، وغيرها …)، يرويها “الحكواتيّ الشاميّ” فيحفظ سرد الحكايات والسير شفاهياً، بعبقرية السرديات الشعبية كضامن لاستمرار الثقافة.

وله قيمة لغوية كونه لم يقطع علاقته باللغة العربية، ولا بنحوها، إنما تميز بسرديته البسيطة/ المعقدة في آن. بتخييله وذكاء سرده وعبقرية لغته، ابتدع لغةً ثالثة بين العامي والفصيح، من دون الإخلال بقواعد اللغة، تتآلف فيها اللغة العربية مع طبيعة المتلقي البسيط الذي يتناوله كتسليةٍ قرائية، كذلك المثقف الذي يعلو بالنص نحو مساحاتٍ تتخطى عتبات التلقّي الأولى.

هل أنصف العرب ألف ليلةٍ وليلة؟

قبل أن يأتي طه حسين وتوفيق الحكيم، ويفكّكا تقاطعات الخلق والإبداع في فنيّاتها، ظلّت الليالي يتيمةً لا تنال الاهتمام المستحقّ في بلداننا العربية، لامستها الكتابة النقدية بشحّ، وحاربها الأهل والجهات الرسمية كعدوّ، حكموا عليها مراتٍ بالحرق لأنها انتصرت للمخيال الشعبيّ، ومسّت بالمقدّس ووضعته على بساط النقد والسخرية. لكنّ حكاياتها الأقوى من السيف، انطلقتْ سلاحاً يمرّر سرّياً ويضمن لليالي استمراريتها وانطلاقها إلى العالمية.

عميد الأدب العربي طه حسين- أرشيف

وفي الغرب، اعتنتْ مؤلَفات القرون الوسطى الأوروبية بسحر عالم الليالي، الذي يغذِّي دهشتها بالروحانيات وشوقها إليها، فدرستها وأعادت خلقها أكثر مما فعل العرب. ظهرت أولى الترجمات الغربية على يد الكاتب الفرنسي أنطوان غالان (1646 ـ 1715)، الذي التقى شاباً سورياً روى له 300 حكاية منها، فترجمها ودوّنها. وحين رأى غالان شدة الإقبال عليها، راح يؤلف بنفسه حكايا شبيهةٍ بروي الشاب السوري، وينسخها ويوزعها مرفقةً بالهوامش والحواشي التي قاربت أن تكون احتلالاً للنص. وجاءت بعدها عشرات النسخ، وأخذت عنها إلى لغات مختلفة، (كما فعل جيمس جويس، وميشال بوتور، وإيتالو كالفينو، وآخرون)، وحوّرتها إلى نصوصٍ وسيطة لا تُطابق “المحكي”، حتى كادت تصادر النسخة الأولية، إضافةً إلى تقييدها بالتدوين الذي يصادر فنّ المشافهة.

إيتالو كالفينو

 وبعد القرن التاسع عشر اهتمّ الروائيون والشعراء الغربيون بالليالي حين أرّقهم سؤال الديمومة، وحاجتهم إلى نبعٍ جديدٍ يغذِّي القلق الملازم للمبدع كي يستمرّ في تطوير كتابته. وجدوا في “ألف ليلةٍ وليلة” عالماً يختلف عن المرويات في الأناجيل، ومَخرجاً يعيد إلى الروي قدرته على الإمتاع، فاقتبسوا منها ونوّعوا عليها.

ثم ولّى زمن الفهم الرومانسي للأصالة، وتراجعت الثقة بالموهبة الأصيلة كمعيارٍ وحيد، لتنافسها معايير الأدب كحرفةٍ تفرض على صاحبها إتقانها؛ ما اضطرّ المبدع الغربي إلى الاقتباس من الليالي كنبعٍ لا ينضب، وترقيعه.

كذلك لجأ الأكاديمي إليها لاستدراج مزيدٍ من الطلبة إلى صفوفه، واستغلها منتجو السينما، والرسامون، إلخ.. وبالترقيع غابت عنها حرارة العاطفة لصالح حاجات الاستهلاك، العرض والطلب، “التسليع” الذي يجرّد السلعة من أولياتها ويقدّمها قاصرةً فكرياً عن روح الفرد والجماعة في المجتمعات العربية القديمة، يسوّقها مختلفةً عن أصولها الأولى بما يرضي خيالات الغرب عن “شرقٍ افتراضي” أطلق عليه إدوارد سعيد اسم “الاستشراق”، بينما “ألف ليلة وليلة” أبعد أثراً من أن تحجَّم في هذا السياق.  

لكنّ هذا الاهتمام الغربي، على علّاته، أحيا اهتمام النقاد العرب بألف ليلةٍ وليلة، فانطلقتْ دراساتٌ نقدية حقيقية تطلقها من أسر اختزال الغرب لها في تنصيب شهرزاد كسيدة للمحكيّ وحسب، تحرّرها من التبعية للعقلانية الغربية، السائدة منذ عصر التنوير، لعلها تتيح للقارئ العربي أن يعيد قراءتها من خارج النظرة الاستشراقية، وتعيد لليالي مكانتها المستحقة في ثقافتنا العربية، رديفةً لمسارها في الثقافات العالمية، إنما بنسختها الأصيلة.

♦طبيبة وكاتبة ومؤلفة سورية

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات