الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات

أفكارٌ ما بين الأدب والطب..

كيوبوست

د.نجاة عبدالصمد♦

كلُّ حياةٍ، جنيناً بشرياً كانت أم قصيدة؛ نعمةٌ كبرى، ومن شروط كينونتها الجمال..

خَلقُ الجنين مثل خلق القصيدة.. ملكةُ الشعر لا تكفي وحدها. يقرأ الشاعر آلاف القصائد، يحفظ مئات الأبيات، يحشد ذهنه سنيناً، شهوراً، أياماً، ساعاتٍ، ليأتيه الإلهام في نصف ساعة أو بضع دقائق، وقد تكفي للتجلِّي لحظةٌ خاطفة، تولد فيها قصيدة، لم تكن أبداً لتولد، لولا سنوات التحضير لخَلقها. كذلك الإلقاح، خلق الجنين؛ تتكاتف ملايين النطاف لتؤازر واحدةً منها في اختراق بويضته لاندماجها بها لتخلقا جنيناً، قصيدة حياة ما كانت لتومض لولا مخزونها الفريد، ولولا احتشاد أخواتها حولها في مشقَّة الرحلة.

ربما لهذا يطلقون في العلم على النطفة والبويضة اسم: الأعراس، طلائع الحياة. وهذه الأعراس يموت منها الكثير، مثلما تموت ملايين القصائد الضعيفة..

اقرأ أيضًا: كيف يمكن لعلم النفس أن يساعدنا على العيش بطريقة أفضل؟

كيف تحفظ الأسماك نسلها، كيف تتكاثر؟ في موسم التزاوج تسبح الأسماك آلاف الكيلومترات قاصدةً مكان لقائها الموسمي الموعود في قاع البحار، فيه تحفر عشها، وتلاقيها ذكورُها إليه وقد اكتسَتْ بزاهي الألوان، تدنو من إناثها بودٍّ، بحبٍّ، تتغزَّل بها، تؤدي لها رقصةً مثيرة قبل أن تقذف لها ملايين النطاف، ملايين لا بد منها كلها لضمان وصول بعضها إلى بيوض الأنثى التي قذفتها في عشِّها وسط قاع البحر، تُلاقحها، ومن كل اثنين منها تولد سمكةٌ في البحر..

أظهرت دراسات مطولة أن أسماك قرش الليمون تعود إلى موطنها لتتكاثر- “بي بي سي”

هل لا يزال في تناسل الإنسان صورةٌ عن أشكال التناسل الأولى عند الأسماك؟

في الشهر الخامس من حمل المرأة يملك مبيضا جنينها الأنثى خمسة ملايين جريب، رقمٌ من ست مراتب، كل واحدٍ منها مشروع بويضة، ولا يبقى منها عند ولادة البنت سوى مليون أو اثنين، ولا يصمد في مبيضيها حتى عمر بلوغها سوى بالكاد خمسمئة ألف، رقمٌ من خمس مراتب، ولا يتحرر منها في عمر خصوبتها إلا ما لا يزيد على أربعمئة بويضة، رقمٌ من ثلاث مراتب، ولا تنجب في حياتها في أحسن الأحوال أكثر من خمسة عشر طفلاً، رقمٌ ينازع ليكون من مرتبتَين، والغالبية تنجب أقل بكثير، وقد يُسقطن كثيراً من الأجنة دون أن يعلمن أنها سقطت لأنها شاذّة، مريضة، وقد ينجبن أطفالاً بمواصفاتٍ معطوبة، وقد لا ينجبن أبداً وإن أردن واستقتلن كي ينجبن..

ويطرح الرجل في حياته بلايين النطاف، ويطرح منها في النشوة الواحدة ما يصل إلى خمسمئة مليون، وهذا العدد الهائل ينتخب من بينه الأقوى ليكمل زحفه في طريقه القصير إلى بيته في رحم أنثاه، ويُنَحِّي الضعيفة أو الشاذة منها لتموت في مكانها. وواحدةٌ من أقوى النطاف قد تنجح في تلقيح بويضة أنثاه وقد لا تنجح!

نفوس كثيرة خرَّبها اليأس من نوال الطفل قبل تقنيات الإخصاب المساعد، واستسلم العقيم لعقمه، ومن بعدها امتدَّت أمام البشرية آفاقٌ، حلولٌ أقرب إلى المعجزة، أعلنتْ موت كلمة (العقم)، واستُبدل بها: (نقص الخصوبة).

لا تنجب المرأة في حياتها في أحسن الأحوال أكثر من خمسة عشر طفلاً

تلك القصة الأمريكية القصيرة: (أربعة جنودٍ ذهبوا إلى الحرب، عاد منهم واحد..)؛ هنا تنتهي القصة.

قبل أن يسافر الجنود الأمريكان لغزو العراق، تلقّوا عرضاً واعداً، جداً؛ أن يودعوا نطافهم في البنوك. وصار يمكن للقصة القصيرة أن تطول قليلاً، بعضُ إضافةٍ إليها قد يمنح قرَّاءها الكثير من العزاء، ولا يؤذي فنيَّاتها: (أربعة جنودٍ ذهبوا إلى الحرب، عاد منهم واحد، وأنجب طفلاً. وكان الأربعة أودعوا نطافهم في بنك. الثلاثة الذين لم يعودوا، أيضاً أصبحوا آباء..).

بنكُ النطاف معرض النخبة. عيّناتٌ، خلاصاتٌ مثل معلقة امرئ القيس، لامية الشنفرى، مرثية الخنساء، حِكَم المتنبي، رباعيات الخيام، ملاحم بوشكين، غجريات لوركا، يباب إليوت، هايكو اليابان، أشعار نساء الباشتون، نداءات فروغ فرخ زاد، مطر السياب، بلقيس قباني، جداريات درويش، مواويل الهجيني والعتابا..

اقرأ أيضًا: 11 خرافة حول الحمل لا يجب عليكِ تصديقها

لا يُراكم بنك النطاف في رصيده سوى عصائر الشباب الأصحَّاء، الطويلين، الوسيمين، غير المدخنين ولا متعاطي الكحول، ذوي السلالات الخالية من العيوب الوراثية. يدخل واحدهم البنك، يصهل، يدفق نطافه، يودعها في البنك ويودع ثمنها في جيبه ويمضي، تاركاً وعداً بالحياة لكل محتاج إليه، موقِّعاً أنه لن يسأل يوماً في أي أرحامٍ في بلاد الأرض زُرعتْ نطافه..

وبنك البيوض معرض عيِّنات النخبة، مثل أوديسة هوميروس وإلياذته، وألف ليلة وليلة، وتغريبة بني هلال، وجريمة وعقاب دوستويفسكي، ودونكيشوت سيرفانتس، ومثل منجم الألماس وسط جبال الفحم، لا يرضى لرصيده بأقل من ثمار النساء الفتيّات، الفاتنات، المتينات، عارضات الأزياء، نجمات العافية..

الحيوانات المنوية في طريقها لتخصيب البويضة- موقع “لايف ساينس”

لكنهما، بنك النطاف والبيوض، يستقبلان شُرّاءً من كل الأعمار والصفات. يأتي إليه إنسانٌ وحيد، أو زوجان أو شريكان مسنان أو يائسان، وثريّان. يقتنيان نطفةً وبويضة من الكتالوغ، يختارانها بهذا أو ذاك من الشكل والطول والوزن ولون العينين والشَّعر. تهيئ الراغبة رحمها بالأدوية وتزرع فيه جنينها المختار، وتنجب طفلاً مثالياً كما بويضة أمه النجمة وأبيه كازانوفا..

اقرأ أيضًا: شيء ينذر بالخطر يحدث بين أرجلنا

والإلقاح المجهري تحت عين الطبيب وعدسة المجهر؛ ملحمةٌ لا أقلّ من شجاعة اقتحام سجن الباستيل..

وتجميد خزعة مبيض مثل وعد الجنية للأميرة المسحورة بالشباب الأبدي، مثل انتظار بينلوب لعوليس في الإلياذة..

وتأجير الأرحام مهنةٌ مثل الدعارة، مأكولةٌ مذمومة..

إنما، هل تظل الحياة نعمةً كبرى إن لم يخض حاملُها مآسيها، ثم ينجو من تلك المآسي؟! إنه مسعى الاستنساخ، هذه الفكرة العظيمة والملعونة، سلبُ الحياةِ جهادَها في فرض اصطفائها الطبيعي..

♦طبيبة وكاتبة ومؤلفة سورية صدر لها “غورنيكات سورية”، و ” في حنايا الحرب”.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

د.نجاة عبد الصمد

طبيبة وكاتبة ومؤلفة سورية

مقالات ذات صلة