الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
أصالتنا بين الوهم والحقيقة

كيوبوست
أحمد المطرودي
في مجال تغنِّي العرب بماضيهم وأمجادهم تشكِّل مفردة الأصالة موطنَ ثقلٍ، يتميز بها منجزٌ ما، أو مجتمع ما؛ عندما يتم خلع وصف الأصالة عليه؛ فماذا تعني الأصالة؟
وهل الأصالة دليل صحة وعافية، تمنع من الانزلاق، وفقدان الهويّة؟ أم هي مرادفة للثبات طاردة للتحول والتغيير المنشود؟
وهل تتداخل الأصالة مع تلك الدائرة المعيقة عن الانفتاح والتطور، والاحتكاك المثمر المفيد؟
من الأمور التي تلفت الانتباه ذلك التنافر الحاد بين دلالتَي لفظتَي (مبدع، ومبتدع)، مع أن الجذر اللغوي واحد، وهذا تنافر قد ينسحب على مماثلات كثيرة؛ منها: خلق، واختلق، ونحوهما.. وصيغة الافتعال الصرفية (الابتداع) تقذف بذلك الجذر لسياقات غير محمودة، كما هو ظاهر ومعروف في لغة التراث والتراثيين.
والإبداع والخلق مفردتان تدوران حول الابتكار والتجديد، وتصطدمان بمفهوم التقليد والمحاكاة اللازمَين للأصالة بمفهومنا الدارج؛ فماذا يقابل الأصالة والأصيل؟
اقرأ أيضًا: في يومها العالمي.. لغة الضاد بين المعرفة والقداسة
هل يقابلهما الجديد والتجديد؟
أصالتنا التي نتغنَّى بها كثيرًا ربما تكون سياجًا موهومًا، يمنعنا من الانخراط في تلك الثقافة الإنسانية، التي تبرز في ثقافة الغرب ونتاجه، ومفاهيمه التي أرساها..
أن نرى أنفسنا -في هذه المرحلة- نِدًّا للغرب المهيمن على مفاصل الحياة المعاصرة، والطاغي بعلومه ومعارفه ومنهجياته؛ من خلال التنقيب في حفريات هزيلة قديمة، تلك مسألة تنهكنا وتتعبنا، وتحجب عن أنظارنا حقيقة وضعنا المأزوم، وقد آن لنا أن ننعتق من تلك الدائرة التنافسية الموهومة، وأن نواجه ذاتنا أو ذواتنا بآليات فحص موضوعية، تحفظ ما لنا من تميز ومنجزات وإبداعات، وتدوِّن ما فاتنا، وما نحتاج إليه، وهو كثير…
ذات مرة -قبل سنين عديدة- كنت في حديث جانبي مع خالي الكبير، عندما تزوج ولده البكر، وقطع حديثَنا استهلالُ الدكتور خطيب الجامع -وقد كان قريبًا للزوجة- بما يوحي أنه -كعادة أصحاب الوعظ- لن يترك هذه المناسبة دون توجيه كلمة، يهتدي بها السارون في الظلمات.. وقد أحسست بقرف تجاهه دفعني لأهمّ بالخروج من مجلسي لولا أنه ابتدأ حديثه بما يشعر بشجبه واستنكاره تلك الخصوصية التي نزعمها لأنفسنا، والتي –ربما- كانت وجهًا من وجوه الأصالة.
اقرأ أيضًا: ماسينيون الفرنسي.. قرينُ الحلاج الصوفي والمعرفي!
بدأ الشيخ حديثه بأننا نترنم بتلك الخصوصية التي تعمينا عن ممارسات وأخطاء فادحة.. وعند المعالجة ارتكس وهذى الشيخ الدكتور فانطلق من افتراض يقوم على أننا نمتلك خصوصية ما، وهي خصوصية -عند التمحيص- لا تشمل البلد كله؛ بل تنحصر في نجد، وإن تحرَّج كثيرون من التصريحات بذلك؛ لكن تلك الفلتات اللسانية التي تصدر بين فينة وأخرى تكشف عن ذلك المستور القابع في الذاكرة، والراسخ في مكونات المعرفة.
هناك مكتسبات تحققت خلال العقود الخمسة الأخيرة، في درجة الوعي والحضور الثقافي الفاعل، وتلك المكتسبات تتطور وتنمو -كمًّا وكيفًا- بالشكّ والاستفزاز؛ لا بالتقديس.

أصالتنا تنطلق -فعليًّا وعمليًّا- من العصر العباسي، الذي تأسَّست فيه العلوم، دون اتصال بما قبله إلا في الشعر؛ فرمز الأصالة في الشعر بقي جاهليًّا؛ أُلزِمَ المتأخرون فيه من الشعراء بالبدء بالطلل، ووصف الناقة، مع تعريج على المحبوبة؛ حتى إن اختلفت بيئات الشعراء المتأخرين، وتنوعت مشاربهم الحياتية والثقافية..
وهذا مثال جزئي، في جانب معرفي محدَّد يبين ما تتترس به تلك الأصالة، وله أمثلة كثيرة في كل فرع من فروع معارف العقل العربي والإسلامي.. إنه بعبارة أخرى: مكوِّن ثقافي انتقل من السطح إلى قوالب البناء؛ فاستقر في العقل المكوِّن، متعاليًا عن المناقشة والتفكير فيه؛ ليصبح نتاج العقل المكوَّن محرومًا من الانزياح والابتكار والإضافة.
اقرأ أيضًا: الجانب المظلم للإبداع: قلق واكتئاب ثم انتحار!
الإبداع ينطلق من الشك والتجريب وحرية الرأي والبحث عن الشغف باكتشاف المجهول، وقد يكون ستار ومفهوم الأصالة السميك قد حرمنا من الانخراط في تلك الدوائر الباعثة للنهوض، ومنعنا من تسجيل حضور فاعل في عصرنا الراهن!
إن التمحور حول الماضي بهذا الشكل المبالغ فيه موتٌ آخر، وحل هروبي، يكبِّل العربي، ويمنعه من التعامل مع حاضره؛ فضلًا عن التفكير والنظر في مستقبله، واستشراف ذلك المستقبل..
إن الولع بالحقيقة تخمده تلك الأجوبة الجاهزة التي تملك وزن السلطة!