الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةرفوف المكتبة
«أشياء تتداعى».. تفكيك أسطورة “التمدن” الأبيض!

كيوبوست
إيهاب الملاح
– 1 –
بعد ما يقرب من 63 سنة على صدورها للمرة الأولى، أعادت منشورات إبييدي اللندنية، إصدار ترجمة عربية جديدة لرواية الكاتب والروائي النيجيري الأشهر شينوا أتشيبي «أشياء تتداعى»؛ درة الرواية الإفريقية المعاصرة وإحدى روائع الروايات في القرن العشرين، وأيقونة الأعمال الأدبية في التيار الفكري والثقافي الذي جرى تدشينه في الثلث الأخير من القرن العشرين، وشُهر بـ “مناهضة الكولونيالية” أو “تيار ما بعد الاستعمار”.
“أشياء تتداعى” هي الرواية التي فتحت الباب واسعاً أمام الرواية الإفريقية، ونقلتها إلى آفاق العالمية بالمعنى الإنساني والمقاوم للمركزية الأوروبية، بتقويضها الوعي الزائف الذي تم نسجه حول “الآخر”، وإعادة الاعتبار لهذا الآخر على ما هو عليه بثقافته الأصيلة وخصوصيته لا على ما يريد أن يصوره الغرب المتغطرس بأحكام متعالية ونظرة دونية وتصور عنصري تمييزي لا إنساني.
ترجم الرواية إلى العربية عبد السلام إبراهيم، وصدرت ضمن سلسلة “روائع الترجمات الأدبية”؛ وهي سلسلة تهتم بإعادة نشر روائع الأعمال الأدبية والروايات العالمية، في ترجماتٍ جديدة تقترب من المجال اللغوي المتداول في أوساط الشباب، وتراعي الذوق المعاصر، وتحاول أن تجسرَ الهوة بين لغة الترجمات القديمة، والذائقة المعاصرة.

– 2 –
تدور أحداث الرواية حول مأساة أوكونكو أحد أقطاب قبيلة “آوبي” في الفترة التي بدأ الرجل الأبيض يظهر فيها على مسرح الأحداث الإفريقية، ويتوغل في دهاليز وتفاصيل حياة القرى الداخلية. ويصور أتشيبي في أسلوب ممتع سلسلة الأحداث التى يعيشها “أوكونكو”، منذ نشأته الأولى وجهاده وعمله المتصل ليصل إلى مركز ممتاز في القبيلة، ثم سقوطه نتيجة لكبريائه واندفاعه، وتمسكه ببعض القيم الخاطئة لخوفه من أن يتهم بالجبن أو الضعف وهى صفات كان يتصف بها والده الفاشل مما يدعوه إلى الشطط وإساءة التصرف. ويصور المؤلف حياة بأكملها لها خصوصيتها الثقافية ونظرتها إلى الحياة والموت، ويمثل أوكونكو جانباً نابضاً بالحيوية والإنسانية من هذه الثقافة التي تعرضت للعنف والاغتيال على يد أبناء الحضارة الأوروبية الحديثة.
مؤلف الرواية شينوا أتشيـبي Chinua Achebe أصبح معروفاً منذ زمن لجمهرة القراء العرب، على الأقل بعد أن ترجمت مجموعة متميزة من أعماله إلى اللغة العربية، منها رواية «الأشياء تتداعى» التي أصدرها سنة 1958، وترجمتها للعربية الدكتورة أنجيل بطرس سمعان، وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر في القاهرة سنة 1971، وروايته «سهم الله» التي أصدرها سنة 1964، وترجمها سمير عبد ربه، وصدرت الترجمة عن الهيئة نفسها بعد أن أصبح اسمها الهيئة المصرية للكتاب سنة 1992.
اقرأ أيضًا: «نجازاكي» وإحياء ذكرى القنبلة النووية روائيًا!
وقد أسس أتشيبي في عام 1971 جريدة Okike لتكون منبراً للكتابة الإفريقية الأدبية، والآراء النقدية التي تسعى إلى تأكيد تحررها، وإبراز أصالتها في مواجهة خطاب التبعية السياسية والاتباع الثقافي. وأخذ أتشيبي مع مجموعة من الكتاب والروائيين الأفارقة (خاصة في غرب إفريقيا)، تفكيك الخطاب الثقافي للاستعمار القديم والجديد والأجد وتعريته من النزعات والمفاهيم الملتبسة به، مثل مفهوم العالمية ونزعتها، مؤكداً دور الكاتب الإفريقي الذي صاغ بمقاومته تحرره الفكري وأصالته الإبداعية، منطلقا في ذلك -أي هذا الكاتب- من وعيه العميق بالشروط الاجتماعية الثقافية الخاصة به، ومن استلهامه الواعي لميراثه الخاص.
– 3 –
يوصف أتشيبي (1930- 2013) بأنه عميد الرواية الإفريقية والنيجيرية المكتوبة باللغة الإنجليزية، وروايته التي اقتبس عنوانها من بيت للشاعر الأيرلندي الشهير وليام بتلر ييتس، تعتبر درة أعماله، ومن أبرز روايات القرن العشرين، ومعظم إن لم يكن كل الذين فازوا بجائزة نوبل في الأدب من أبناء القارة السمراء؛ مثل نادين جورديمر، ووول سونيكا، وج.إم.كوتزي تأثروا كثيراً بهذه الرواية التأسيسية وبعالمها.
عبد السلام إبراهيم مترجم الرواية يقدم لها معرّفا بأهميته، ويترجم أيضاً حواراً طويلاً مهماً يشرح فيه أتشيبي حكايته مع الكتابة، يقول بوضوح إنه عندما كان في سن الفتيان، عرف المثل العظيم الذي يقول: “إلى أن تجد الأسودُ مؤرخيها، فسيمجد تاريخ الصيد دائماً الصياّد”، قرر أن يقوم بهذه المهمة، أن يكون كاتباً يعبر عمن لا صوت لهم، أن ينطق بلسان الأسود رغم أنه تعلّم في مدارس الصيادين، أن يروي معاناة وآلام الأسود وشجاعتها أيضاً.

– 4 –
عبقرية هذه الرواية؛ كما يرصدها الناقد محمود عبد الشكور، أنها أثبتت أكذوبة أن الرجل الأبيض جاء إلى إفريقيا ليجد بشراً بلا ثقافة أو ديانة أو حضارة، “أوكونكو” بطل الرواية وأسرته وجيرانه وأصدقاؤه، وحياته وأحلامه، وماضيه وحاضره، كل ذلك ينسج من خلاله “أتشيبي” ملامح عالم متكامل لا تملك إلا أن تتفاعل معه لأنك تراه بكل أصواته وألوانه، الإنسان الذي يعيش على فطرته مندمجا مع الطبيعة، إن الطريقة إلى يصف بها “أتشيبي” مثلاً طقوس الزواج، أو عرض القضايا على أرواح الأسلاف القادمة متخفية وراء الأقنعة، أو استدعاء أهل القرى في الساحة لاتخاذ قرارات الحرب، أو حتى وصف قيام كاهنة عراف الكهف بإنقاذ طفلة “أوكونكو” من الحمى، كل ذلك يجعل هذا المجتمع حياً ونابضاً ومدهشاً، حتى عاداتهم السيئة مثل قتل التوائم، تقدم هنا ببساطة وبتفسير يرتبط بعوالم السحر والخوف من القوى المجهولة، ومن خلال الإيمان بنوع من الدين البدائي حيث فكرة القرابين، التي ظلت موجودة بتنويعات أخرى في الأديان السماوية.
اقرأ أيضًا: «إطلاق الروح البرية للمرأة».. الأمومة روح العالم
إن ما تناقشه الرواية أعمق بكثير من إدانة الرجل الأبيض، إنها تتحدث عن عدم قدرة الإنسان عموماً على استيعاب اختلاف الآخرين عنه، عدم احتماله ثقافة أخرى، ورغبته في أن يكون الناس جميعاً على مثاله، مأساة أوكونكو في شعوره بالاغتراب عن عالمه القديم، بعد سنواتٍ عاد إلى قريته مع أسرته، كان قد نفي بسبب جريمة قتل خطأ، رجع فوجد ابنه مبشّرا، سادة القري يتم جمعهم وضربهم، قانون جديد ومحكمة مختلفة، العملاق الذي حصل على الرتب والألقاب، بطل الحروب والمصارع الأعظم، وجد نفسه مهانا وسط زوجاته وأولاد، ولم يستطع هو أن يتغير، بدا كما لو كان أسدا يجبرونه على أن يكون حملا، قرر أن يشنق نفسه، وفعل ذلك بمنتهى البساطة وبلا ذرّة ندم.
«أشياء تتداعى» واحدة من الروايات التي تغير من رؤية العالم لدى قارئها وناقدها على السواء.