الواجهة الرئيسيةشؤون عربية

أزمة نقص الأدوية في تونس تتفاقم، والصيدلية المركزية عاجزة!

كيف يعاني ذوو الأمراض المزمنة في تونس من الفساد؟

خاص كيو بوست –

حكايات الفساد في تونس سلسلة لا تنتهي بمشاهدها المرتّبة بعناية، التي لن تستطيع كشف خيوطها بالعين المجردة، لأن أبطالها ليسوا مواطنين عاديين، بل إنهم في معظم الأحيان من أصحاب المليارات من رجال الأعمال الذين يسعون إلى الكسب السريع.

وقطاع الصحة من أكثر القطاعات التي ينخرها الفساد في تونس، ومنها قضية البنج الفاسد، وصفقة اللوالب القلبية الاصطناعية غير الصالحة للاستخدام، وغيرها. هذه الحوادث ليست الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، ولعل أبرزها حاليًا ما يتعلق بأزمة فقدان الأدوية التي يجري تهريبها وسرقتها والتلاعب بها من قبل “عبدة الملايين”، الذين تاجروا بكل شيء حتى بصحة الإنسان وحياته، رغبة في ربح أوفر.

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تونس اليوم تعيش أزمة نقص حاد لكثير من الأدوية الأساسية المتعلقة بالأمراض المزمنة كأدوية مرضى القلب، والسكري، وضغط الدم، وحبوب منع الحمل، وغيرها.  

وهنا تطرح عديد التساؤلات من قبيل: هل يعد فقدان أدوية الأمراض المزمنة أمرًا عاديًا حتى لا تسرع الهياكل المختصة في توفيره لحماية أرواح الناس؟ وأين وزارة الصحة من كل ما يعانيه المرضى في هذا الجانب؟ ألم ينصّ الدستور التونسي في بابه الثاني على أن “الصحة حق لكل إنسان، وتضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن”؟

 

أسباب تراجع مخزون الأدوية وفقدان عدد هام منها بالصيدليات

  • شبهة فساد

ما تزال مسألة النقص الكبير في المخزون الوطني للأدوية في الصيدلية المركزية تثير الجدل والتساؤل، وقد أرجعها البعض من أهل القطاع إلى الديون غير المستخلصة والمتخلدة بذمة الهياكل العمومية الاستشفائية والصندوق الوطني للتأمين على المرض، التي بلغت 820 مليون دينار تونسي، بينما أرجعها آخرون إلى الفساد الذي نخر هذا الهيكل، بسبب التهريب والسرقة.

وقال عن هذا الفساد وزير الصحة العمومية عماد الحمامي: “إنه فساد يجب أن نجتثه من الصيدلية المركزية، ومن مسالك التوزيع، وصولًا إلى الصيدليات الخاصة والمنتجين المحليين”. وقد تم رفع أكثر من 100 تقرير في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية إلى وزارة الصحة، من بينها 20 تقريرًا حول شبهات فساد مالي وإداري جرت إحالتها إلى القضاء، منها قضية تزوير أوامر صرف وفواتير لصالح شركة وهمية، بقيمة فاقت 2 مليون دينار في المستشفى الجهوي بسليانة، وذلك عبر تزوير فواتير شراء معدات طبية وأدوية زعموا أنّهم اقتنوها من الصيدلية المركزية، ثم دفعوا الأموال، لكنّهم أودعوها في حساب مصرفي خاص.

إضافة إلى الكشف عن فساد في مصحة العمران التابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويتمثل في إسناد أدوية دون وصفة طبية بتكلفة تصل إلى 11 مليون دينار، الأمر الذي أكده تقرير دائرة المحاسبات.

ولعل التقرير الذي صدر عن هيئة الرقابة العامة لوزارة المالية في شهر نوفمبر/تشرين ثانٍ 2017 عن الصيدلية المركزية، الذي كشف عينة من الفساد والتجاوزات داخل هذا الهيكل، منها عدد الساعات الإضافية لأحد أعوان الصيدلية المركزية، الذي تجاوز 599 ساعة خلال 5 أيام، بمعنى أن العون عمل لمدة 100 ساعة خلال يوم واحد!

كما كشف التقرير أيضًا خلال برنامج تلفزي بث منذ أيام أن عدد الساعات الإضافية لعون آخر بالصيدلية المركزية بلغ 461 ساعة إضافية مدة 5 أيام، أي بمعدل 40 ساعة يوميًا! وتبعًا لهذه الأزمة، تمت إقالة الرئيس المدير العام للصيدلية المركزية المعز لدين الله المقدم، وتعيين أيمن المكي خلفًا له.

 

  • المؤسسات الصحية العمومية سبب عجز الصيدلية المركزية في تونس

حسب ما أفاد به كاتب عام النقابة التونسية لأصحاب الصيدليات الخاصة مصطفى العروسي، تبين أن الصيدلية المركزية تمر حاليًا بوضع مالي صعب ناتج عن ديون غير مستخلصة. وقد بات الوضع في المستشفيات كارثيًا بسبب ازدياد ديونها التي بلغت 400 مليون دينار لمزوديها الأجانب، فيما بلغت نسبة ديون الصيدلية المركزية المخلدة بذمة حرفائها من القطاع العام 820 مليون دينار، 55% منها لدى الصندوق الوطني لتأمين على المرض، و45% لدى المستشفيات.

وشدد العروسي على “أن أزمة الأدوية موجودة منذ فترة، إلا أنها -لأول مرة- تصل إلى هذه المرحلة الحرجة، إذ تم فقدان 88 صنفًا من الأدوية التي تعالج العديد من الأمراض، ومنها الحساسة، على غرار المضادات الحيوية وحبوب منع الحمل”. كما أشار إلى أن “مخزون الصيدلية المركزية من الأدوية يكفي لمدة 55 يومًا”، وذلك وفق إحصائيات قدمتها خلية اليقظة للصيدلية المركزية.

 

  • استهلاك الأدوية

تشير دراسة لوزارة الصحة أن كل تونسي ينفق ما يعادل 490 دينارًا سنويًا على صحته، بما في ذلك الأدوية. كما كشف بحث ميداني أنجزه المعهد الوطني للاستهلاك في موفي 2014 أن 61% من التونسيين يشترون الأدوية من الصيدلية مباشرة دون استشارة الطبيب، وهو ما ساهم في ارتفاع استهلاك التونسيين للأدوية منها المضادات الحيوية، الذي تضاعف استهلاكها ليمرّ من 90 مليون دينار في 2002، إلى أكثر من 200 مليون دينار في السنوات الأخيرة.

 

  • تهريب

وتعتبر مصادر من وزارة الصحة مشاكل نقص الدواء الطارئة في تونس أقل بكثير مما هو عليه في دول أخرى. ويرتبط النقص أحيانًا بمشاكل في التزويد وفي مسالك التوزيع. من جهة أخرى أشارت مصادر مطلعة إلى أن دعم الأدوية يكلّف خزينة الدولة أكثر من 30 مليون دينار، لكن جزءًا هامًا منها يجري تهريبه، علمًا أن هذه الظاهرة لا تتوقف عند الأدوية التي تروج دون وصفات طبية. وتشير التقديرات إلى أن نحو 400 ألف دينار هي قيمة الأدوية المهربة التي تم حجزها العام الماضي، غير أن الخسائر الحقيقية لهذا الصنف من التهريب تتجاوز هذا المبلغ بكثير.

 

الحلول المطروحة

تتطلب خطورة الوضع الحالي حلولًا عاجلة للخروج من هذه الأزمة، ويجب ألا تكون “ترقيعية”، على غرار التداين لخلاص ديون الصيدلية المركزية، بل حان الوقت لإصلاحات هيكلية. فكما هو معلوم، فإن مسألة استيراد الأدوية، أو حتى تصنيع بعضها على المستوى الوطني، يمكن أن تشهد نقصًا بعض الأوقات لأسباب تصنيعية أو مرتبطة بالتوزيع أو غيرها من الأسباب الأخرى.

لكن المهم في هذا المستوى أن يكون هناك وعي بمثل خطورة هذه المسألة ومحاولة تفاديها سريعًا، وليس التعامل معها على أنها ظاهرة أو مسألة عادية، في استهتار تام بالحياة البشرية. كما يجب في هذا المستوى أن نلفت انتباه المسؤولين إلى أهمية ودقة المعلومة، خصوصًا في مثل هذه الحالات الحرجة والخطيرة، وقد يعد نفاد دواء ما من مخزون الصيدلية المركزية أو المستشفيات أمرًا تقنيًا يمكن تجاوزه، لكن لا يمكن الاستهتار بالحياة الإنسانية، وجعلها أمرًا عاديًا، فعلى وزارة الصحة والدولة الانتباه إلى مثل هذه السلوكيات، ومحاولة التصدي لها، خصوصًا وقد أصبحت -للأسف- ظاهرة سلبية تسيء إلى الدولة وإلى المرفق العام، وتفقد ثقة المواطن فيه.

 

تحقيق استقصائي بقلم جيهان غديرة

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات