الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
أدونيس.. الإيمان بعظمة الإنسان الفرد لا سلطة الجمع

كيوبوست
على هامش مشاركته في أمسية شعرية صينية افتراضية، نظمتها مؤسسة “المهرجان الشعري” في هونغ كونغ، تحدث الشاعر السوري أدونيس، عبر حوارٍ أجراه معه مترجم شعره إلى اللغة الصينية، الأستاذ في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين “شوي تشينغ قوه”، عن تجربته الشعرية، وعن الإنسان، وعن الحجر الصحي والعالم بعد “كورونا”، وعن نفسه التي وصفها قائلاً: “أنا نفسي أكمل حياتي كأنني لست إلا مشروعاً لا ينتهي”.
طفولة أبدية
أدونيس المولود عام 1930 في محافظة اللاذقية في سوريا، لا يزال يخاطب الطفل الذي كان؛ لا بل إنه كلما تقدم في العمر ازداد طفولة، على حد وصفه، قائلاً: “أشعر أن شيخوختي ليست إلا بحثاً تلقائياً ومهيّمناً عن طفولتي.. الإنسان يكبر، يشيخ؛ ولكن في اتجاه الطفولة”، مشبهاً الطفولة بالجسر الذي يصل بين نقطة مجيء الإنسان إلى هذا العالم ونقطة رحيله عنه، والإنسانية كأنها هي أبدياً طفولة الكون.
أما النضج فقد جاء مبكراً، وتجلى في باكورة أعماله ديوان “قصائد أولى” الصادر عام 1957م، عندما كان أدونيس حينها يبلغ (27 عاماً)، وقد أعزى نضجه الفكري إلى المناخ الثقافي والتربوي الطبيعي الذي نشأ فيه، بفضل والده على الأخص.
اقرأ أيضاً: من التحول إلى الإلحاد.. قراءة لفكر أدونيس في الثابت والمتحوِّل
لكن ذلك النضج المبكر الذي أخذ بالتعاظم شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت، لا يمنعه عن التأمل والتساؤل والبحث والقراءة، التي لم ينقطع عنها خلال الحجر الذي خضع له العالم بسبب وباء فيروس “كوفيد-19″، واصفاً الحجر، الذي بعثره في أنحاء العالم كله بـ”مرآة أرى فيها نفسي والعالم في جبهة واحدة، مقابل الوباء الذي يقف وحيداً في وجه البشر جميعاً”، مولِّداً في نفسه وعياً وشعوراً بضعف الإنسان وبحاجته الكيانية إلى التضامن مع أخيه الإنسان في ما وراء الحدود كلها.
عن الإنسان
خلال حديثه الذي نقلته جريدة الأخبار اللبنانية، لم تغب كلمة “إنسان” عن لسان أدونيس؛ ما يوحي بأنه محور اهتمامه، ورؤيته الشعرية، مؤكداً الحاجة إلى إخراج الشعر من ماضيه المستقر، وتجديد العلاقات التي أسس لها؛ لبناء أنظمة ومجتمعات وثقافة وعلاقات إنسانية وجغرافية جديدة تتمحور حول عظمة الإنسان الفرد، لا حول سلطة الجمع باسم الدين أو العرق أو العددية الأكثرية التي لا تقتل الديمقراطية وحدها، وإنما تحوِّل الإنسان أيضاً إلى مجرد كرة بين أيدي وأقدام اللاعبين.
وأعرب أنه خلال الحجر ازداد يقيناً أن الإنسان لا يكون نفسه حقاً إلا بمقدار ما يكون الآخر المختلف، وأن العدوان والطغيان والاستعباد في مختلف أشكالها التي نعرفها، خصوصاً في العالم العربي، تُجرِّد الإنسان من إنسانيته وتهبط به إلى ما دون الإنسان.

مؤكداً في الوقت ذاته أنه ليس هناك ماضٍ أو حاضر أو مستقبل إلا بالإنسان وإبداعاته، “الإنسان بصيرة الكون وبصره، هو الذي خلق الماضي، وهو الذي يخلق الحاضر والمستقبل”.
وحول موضوع وباء “كورونا” الذي رافق الحوار في معظم محاوره، رأى أن العالم سيختلف بعد الوباء، علماً بأنه كان مريضاً قبل الوباء؛ ففي الغرب والشرق مشكلات لا ترجّ أسس الحضارة المستقرة وحدها، وإنما ترجّ أسس الكينونة الإنسانية، وعلاقات الإنسان بنفسه وبالإنسان، وعلاقات الشعوب بالشعوب، والأمكنة بالأمكنة، وفقاً لأدونيس.
اقرأ أيضاً: نزار قباني.. الشاعر الذي فضَّل جنون البحر على شيخوخة المرافئ
ومع أن سؤالاً طرحه المحاور على أدونيس حول سر حفاظه على صحته، فإن جواب صاحب ديوان “أغاني مهيار الدمشقي” تمحور حول الإنسان أيضاً، فقال: “.. عِشْ، وفكّرْ، واحلمْ، وأبدعْ، كما لو أنه ليس لك عدو أبداً، كما لو أن الإنسان في كل بلد صديقٌ لك”، أو بمعنى آخر “لا يستحق العدوّ حتى أن تفكِّر فيه، فإذا حسبت له حساباً؛ فهذا يعني أنه جرَّك إلى وحله وأنك صِرت من عالمه وشبيهاً به، وفي هذا بداية انهيارك”.
مؤكداً أنه لا عدوّ للإنسان إلا جهله: هذه هي القاعدة الأولى لحياتي، نظرياً وعملياً.
قيمته الشعرية
أصدر أدونيس عشرات الدواوين والكتب الفكرية، إضافة إلى الدراسات والمقالات، وظل منذ عام 1988 المرشح الدائم لجائزة نوبل للآداب، وأول أديب عربي يفوز بجائزة “غوته” الألمانية العريقة، ودعا إلى أفكار جعلت منه موضع خلاف جذري في البلدان العربية، حسب تعبيره، كدعوته إلى القطيعة مع الموروث الثقافي عبر إنشاء “جبهة مدنية علمانية على المستوى العربي”، وفصل الدين عن الدولة لتحقيق الديمقراطية.. وغير ذلك من الآراء الحداثية على المستويين الفكري والشعري.

وأعاد صاحب “الثابت والمتحول” أساس ذلك الخلاف حوله، إلى نظرته الخاصة للثقافة العربية، التي لا تزال في جوهرها كما يرى دينية (فقهية- شرعية، على الأخص)، نظرةً وممارسةً؛ ما يجلعها متناقضة، ليس فقط مع ثقافة العصر والانقلابات المعرفية الكبرى في جميع الميادين، وإنما ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها.
موضحاً أنه بنظرته تلك، يشق العرب إلى قسمَين؛ فبعضهم يصطف إلى جانبه، وهم القلّة الخلّاقة الرائية، وانطلاقاً منها يرون أن شعره وفكره يمثلان ذروة الشعر والفكر في اللغة العربية، والتي لا مثيل لها في تاريخ الإبداع العربي؛ وبخاصة الحديث..
والبعض الآخر، وهم الكثرة، أفراداً وجماعات ومؤسسات وأنظمة، يرون أن جميع الكتَّاب العرب، شعراء ومفكرين، أكثر أهمية منه، وبعضهم يذهب إلى أبعد، فيرون أنه ليس شاعراً وليس مفكِّراً.

بينما يتعاطى أدونيس مع ذلك الوضع القائم، بالقول في نفسه: “ما أسعدني! فلو كان العرب جميعاً إلى جانبي، لكنت أشكّ في نفسي، بل أكثر من ذلك: كنت أرفضها، وأتبرّأ منها”، مشيرًا إلى أن ذلك الانشطار حوله، خلق ويخلق له صعوبات كثيرة على مستوى العيش اليومي والعملي؛ لكنه يمنحه قوة أو طاقة كبرى للعمل مع القلّة على نقل الثقافة العربية من وهمها الراهن القائم على التقاليد وأوهامها وتصوراتها، وبخاصة الدينية، إلى عالم آخر قائم على الكشف المعرفي والعلمي والفلسفي والفني.
اقرأ أيضًا: طه حسين في ذكراه الـ46.. الإسهام المعرفي والثقافي
ولفت إلى أن ما يكتبه شعراً وفكراً، يزداد انتشاراً، لا في مسقط رأسه سوريا وحدها، وإنما في العالم العربي كله، والقرَّاء الخلاقون يتزايدون، ويضيئه أيضاً المستوى الرفيع الذي يتميز به استقبال نتاجه الشعري والفكري في العالم كله، شرقاً وغرباً.
في نهاية حديثه، تطرق إلى كيفية قضائه وقته، ومشروعاته التي يعمل عليها حالياً، وأولها محاولته إنهاء كتابة سيرته الذاتية، وثانيها إكمال كتابه “جمالية التحوُّل” حول تحوُّلات اللغة العربية فكراً وشعراً وفناً، وكل ذلك في سبيل أن يظل وقته يقظاً ومتحركاً وبعيداً عن الرتابة، إلى جانب القراءة وتصنيف أوراقه المتراكمة منذ نحو نصف قرن.