الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

أحمد التوني.. ساقي الأرواح وسلطان المادحين

كان التوني يرفض احتكار التصوف في الإسلام، معتبراً أن المحبة للجميع، مهما كانت دياناتهم، وأن الحالة الصوفية تصلح للكل؛ فهي تهذب النفوس، وتسمو على الرغبات وصغائر الأمور.

كيوبوست- سلمان إسماعيل

في بحر الشوق، نزل ملايين المستمعين إلى ساقي الأرواح وسلطان المادحين، الشيخ أحمد التوني؛ الموهبة الفريدة التي نقلت الإنشاد الديني إلى كل ربوع الأرض، لما كان يتميز به من قدرة على النفاذ إلى القلوب، عبر المعاني التي ركز عليها، فالمحبة والتسامح والفناء في الحب، رسالة حمل الراحل شعلتها طوال حياته التي تخطت ثمانية عقود.

لم يقصر التوني المديحَ على رموز المسلمين من النبي إلى صهره المغوار علي بن أبي طالب، والثلاثة من بنيه، الحسن والحسين والسيدة زينب، مروراً بالأولياء والصالحين، و”خُضر العمايم” الذين نادوه وأخذوه إلى عوالم أخرى؛ فيقول في إحدى حفلاته: إن وصلت إلى الإمام أبي الفنا، ساقي الرجال مدامة التوحيد، إمام على نهج ابن مريم سالكا، عيسوي، حاله التجريد.

ويقصد به القديس “أبو فانا”، أحد الآباء المؤسسين للرهبنة المصرية في القرن الرابع الميلادي.

اقرأ أيضاً: التجمعات والطرق الصوفية… روحانيات على ضفاف النيل

في عشرينيات القرن الماضي، ولد التوني، وعاش في قرية الحواتكة بمحافظة أسيوط، وتتضارب الروايات حول التاريخ الدقيق لمولده؛ فهناك مَن يقول عام 1919، أو 1922، والبعض يذهب إلى أنه ولد في 1932؛ لأن عدم تسجيل المواليد في السجلات الرسمية كان سائداً في الريف المصري حينها.

وفي مقابلة للتليفزيون المصري، قال المنشد محمود التوني، نجل ساقي الأرواح، إن والده بدأ الإنشاد الديني دون موسيقى، ثم أدخلها بعد ذلك باستخدام الدف والكف والإيقاع، وطوَّر كثيراً في هذا الفن؛ حينما بدأ التغني بقصائد كبار أعلام الصوفية، وكانت بداية تعرُّف الجمهور عليه في مولد الإمام الحسين.

وتعد “الله محبة” التي يقول فيها: نأتي الكنائس والرهبان قد عكفوا، لدى الصوامع يدعون النواميسا؛ حيث البطارق هاموا في برانسهم، يرنحون بتوراة وإنجيل وتقديسا، واحدة من أشهر القصائد التي تغنى بها التوني، مادحاً المسيح، عليه السلام، ليدلل على أن المحبة للجميع، وأن التصوف ليس إسلامياً فقط؛ ولكنه حالة تسمو فيها الروح على المعاني الدنيوية، وتختلط فيها معاني التوحد مع المحبوب، لتربية أفراد محبين لا يعرفون للعنف سبيلاً.

التوني والعمائم الخضراء

لم يترك أصحاب العمائم الخضراء أحمد التوني وحيداً في عالم المادية، واصطحبوه لينهل من ينابيع المحبة، فنجده يقول: “وعاينت الجمال بكل شيء، جمال الحق في عين العيان، وأشجار تسبح ناطقات، بمَن عرف الحقيقة بالبيان، جمال لا يشابهه جمال، وحسن ليس يحصيه جنان”، فانطلق حاملاً مشاعل المحبة.

وكان الشيخ يرفض احتكار التصوف في الإسلام، معتبراً أن المحبة للجميع، مهما كانت دياناتهم، وأن الحالة الصوفية تصلح للكل؛ فهي تهذب النفوس، وتسمو على الرغبات وصغائر الأمور.

كان عام سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على الحكم في مصر حزيناً بالنسبة إلى التوني الذي رفض استخدام الدين كجسر للوصول إلى السلطة والمنافع الدنيوية، واحتفل بإزاحة الجماعة عن المشهد بإحياء حفل في ميدان التحرير رغم إصابة ساقه التي تحامل عليها ليشارك المصريين فرحتهم بعودة الروح، حسبما يروي حفيده أحمد التوني، في مقابلة خاصة مع “كيوبوست”.

يبدأ التوني الحفيد حديثه بالعلاقة الخاصة التي كانت تربطه بساقي الأرواح؛ فهي كما يصفها “علاقة حب وصداقة وأبوة وتربية وإرشاد روحي وإلهام كبير”، فقد توفي والده عام 2004، قبل وفاة جده التوني بنحو 10 سنوات، قضاها ملاصقاً له، حتى لو لم يكن يفهم في ذلك الوقت المعاني التي كان يمثلها عملاق الإنشاد الصوفي؛ لكنه زرع في عقله اللا واعي قيم التسامح والحب، وضرورة التعامل مع الناس بالحسنى، والبحث عن حقيقة الجوهر، وعدم الالتفات إلى المظاهر.

أحمد زين التوني حفيد سلطان المادحين

لم تنتهِ رسالة التوني بانتقال روحه إلى العالم الآخر، فحسب الحفيد، الذي يواصل مسيرة الإنشاد، والشيخ علي أيضاً، أحد أبناء الراحل، يؤديان دوره في عالم التصوف المصري، والعلاقة الفريدة التي تربط عموم المصريين بآل البيت، وحب الاستماع إلى مَن يمدحونهم.

اقرأ أيضاً: الإسلام المعتدل هو الحل

رسالة روحية

ورغم الشهرة العالمية التي وصل إليها سلطان المادحين، لم يكن التوني يتعامل مع الإنشاد كمهنة يتكسب منها قوت عياله؛ بل كان يتعامل مع الأمر كرسالة روحية، ولم يكن يتفق على أجر لحفلاته، ولم يجنِ من ورائها المال الكثير، باستثناء الحفلات التي أحياها خارج القطر المصري؛ في فرنسا وإسبانيا وغيرهما من البلدان الغربية التي وصلت إليها المعاني الروحية في صوت وموسيقى أحمد التوني الفريدة.

يقول الحفيد: لو كانت مجرد مهنة؛ لما وصلت الرسالة الروحية، ولما حظي أحمد التوني بهذه المكانة الكبيرة في قلوب محبيه وعارفي فضله، فقد تعلمنا منه أن لا ننظر إلى المادة كهدف أساسي من الإنشاد، ومن القواعد التي ربَّاني عليها أن أتعامل بتواضع ولا أضع “تسعيرة”؛ فالمنشد يصعد إلى المسرح ليسقي روحه أولاً، ويشبع حاجته الروحية، ولو لم يؤمن بذلك فلن يستطيع أبداً الولوج إلى قلوب المستمعين.

التوني يستقبل زواراً أجانب في منزله بالحواتكة

عاش ساقي الأرواح حياته خادماً لآل البيت، والفقراء والأغنياء على حدٍّ سواء؛ فبيته وساحته في قرية الحواتكة كانا مفتوحَين أمام الزوار، حتى إن الأجانب من جنسيات مختلفة كانوا يأتون لزيارته، وكان يعيل كثيراً من الأُسر المتعففة في القرية، وكان يرى أن الغنى والفقر لا يُقاسان بالمال؛ ولكن عن طريق العلاقة مع الله، وتكريس الحياة لإسعاد الناس ونشر المحبة، ولهذا يحيا التوني في قلوب ملايين البشر.

التوني و”تجار الدين”

لم يكن التوني منفصلاً عن قضايا وطنه؛ بل كان يحمل همَّ مصر، والكابوس الذي جثم على صدرها فترة حكم جماعة “الإخوان المسلمين”، كما يصفها في 2012. فبعد إحيائه حفلاً في ميدان التحرير في الذكرى الأولى لثورة يناير، وإحياء ذكرى الشهداء الذين استطاعوا تغيير مجرى التاريخ، فوجئ بسيطرة الجماعة على حكم مصر.

اقرأ أيضاً: إمام مسجد باليرمو يسعى لنشر التصوف الصحيح في مواجهة التطرف

لكن حزن التوني على مصر لم يدم طويلاً، ومرة أخرى ذهب إلى ميدان التحرير لإحياء حفل كبير ابتهاجاً بالقضاء على الجماعة، وإزاحتها من حكم مصر. وحسب الحفيد، جُرحت ساق التوني في تلك الليلة؛ لكنه أصر على الإنشاد، وأخفى الألم، ليشارك الناس الفرحة، ويواصل دعوته إلى المحبة والسلام بطريقته الخاصة.

التوني في شبابه

في مارس 2014، كان المرض قد اشتد على الشيخ، ورغم ذلك، قضى آخر أيامه في حالة مناجاة مع الله، وكان يقضي أياماً لا يتحدث إلى أحد، وظل يتأمل ما مضى من حياته، مستقبلاً الرحلة الطويلة إلى عالم الأرواح، حتى انتقل إلى دار الحق.

في نهاية حديثه إلى “كيوبوست”، يشير الحفيد أحمد التوني، إلى أن جده الراحل لم يحصل على التكريم الرسمي بالشكل الذي يليق بمسيرته الطويلة في الارتقاء بالإنشاد الديني، ونشر قيم السلام والمحبة والتكافل والتضامن الاجتماعي، على الرغم من مقامه الكبير في قلوب محبيه الذين يحافظون على تراثه حتى اليوم.

 ويرى الحفيد أن مصر اليوم تعود إلى شكلها الروحاني، وتنتصر لقيم التسامح والمحبة، وقد حان الوقت لتخليد ذكرى ساقي الأرواح عبر تأسيس مركز يحمل اسمه، أو مهرجان للإنشاد الصوفي.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

سلمان إسماعيل

صحافي مصري متخصص في حقوق الإنسان والشؤون العربية والإقليمية

مقالات ذات صلة