
كيوبوست- ترجمات
فيكتوريا سوس♦
يُعتبر آرثر شوبنهاور اليوم أحد أكبر المتشائمين في كل العصور، تقوم فلسفته على فكرة أن الحياة أساساً هي معاناة، وكل ما نفعله يذهب هباءً. وفي حين يرى كثيرون أن وجهة نظره هذه تبدو محبطة، يمكن اعتبار تشاؤمه مصدر قوة. كتبت فيكتوريا سوس مقالاً في مجلة “ذا كوليكتور” تستكشف فيه أوجه تشاؤم شوبنهاور، وتناقش فيه إيجابيات نظرته الفلسفية.
ولد شوبنهاور في عام 1788 في مدينة دانزيغ (غدانسك، بولندا الآن) لعائلة رجل أعمال ثري، وكان والده محافظاً وذواقة للفنون والثقافة، ووالدته شاعرة وكاتبة تميزت بالمرح وحبها للفن، وكان صالونها الثقافي يزخر بالشخصيات الفكرية والفنية حتى إن غوته العظيم كان يتردد عليه.
بدأ شوبنهاور بدراسة الطب، ولكنه تحول لاحقاً إلى الفلسفة، وبعد تخرجه عمل بتدريس الفلسفة في برلين وفرانكفورت. وكان يجيد اللاتينية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والإسبانية. وأشهر أعماله الفلسفية هو كتابه “العالم إرادةً وتمثلاً” الذي استمر في كتابة التعليقات حوله حتى وفاته في 21 سبتمبر 1860.
اقرأ أيضًا: دليل الفيلسوف للتحولات الفوضوية
عالج شوبنهاور في أعماله الفلسفية مجموعة واسعة من الموضوعات، واتسمت كل أعماله بالتشاؤم والتركيز الدائم على حقيقة الألم والمعاناة البشرية. درس الفيلسوف المتشائم في أطروحته “الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي” الفرضيات حول معرفة الكون، وانتقد قانون السبب الكافي. وجادل بأنه لاستخدام قانون السبب الكافي يجب على المرء أولاً التفكير فيما ينبغي شرحه، وبعدئذ تكون هنالك حاجة للموضوع. وبالتالي فإن إدراك الوعي هو الشيء الوحيد الذي يجعل التجربة ممكنة. ولذلك، فإن العالم بالنسبة له ليس أكثر من فكرة.
ومع أن فكرة التشاؤم قديمة للغاية، فإن آرثر شوبنهاور طرح أول مشروع فلسفي غير كلاسيكي حول التشاؤم. أهم أعماله بهذا الصدد هو كتاب “العالم إرادة وتمثلاً” الذي يحدد فيه العقيدة الرئيسية لمفهومه الفلسفي: “العالم هو فكرتي” ويعتبرها الحقيقة الصالحة لكل كائن حي مدرك. وبينما يتفق مع كانط على أن العالم هو “فكرتي”، فهو لا ينكر حقيقة العالم، ويميز بين العالم في حد ذاته، والعالم كما يراه بغض النظر عن المشاعر والعقل، أي “عالم الظواهر”.
وبعبارةٍ أخرى، يمكن أن تكون هنالك حقيقة واحدة فقط، وعالم واحد فقط كما نتخيله. فلا توجد الأشياء بدوننا، والأشخاص الذين يدركون هذه الأشياء لا وجود لهم بدون فكرتنا عنهم. لا يمكننا رؤية الأشياء في حد ذاتها، بل من خلال فكرتنا عنها فقط.
وفي فلسفة الإرادة يتعامل أهم أعمال شوبنهاور مع موضوع التحفيز الشخصي، وينتقد الرؤية المتفائلة في نظريتي كانط وهيجل التي من خلالها يحدد المجتمع والعقل الأخلاق البشرية. ويجادل بأن دافع الشخص هو رغباته الخاصة، أو “إرادة الحياة” التي لا يمكن إشباعها أبداً، فهي القوة الدافعة للإنسانية. ويرى أن أصل كل أشكال المعاناة يكمن في الرغبات البشرية، والمعاناة نفسها هي نتيجة أن الشخص يريد المزيد دائماً.

وباتباع هذا المنطق، يمكن أن يستنتج المرء أن الطريقة الوحيدة للخلاص من المعاناة والقضاء على الرغبة وإنهاء الحقد المستمر والأنانية وحب المصلحة الذاتية هي الانتحار. ولكن شوبنهاور لا يدعو للانتحار، بل يبرهن بشكلٍ منطقي أننا بالانتحار لا نلغي أفعال الإرادة. لا ندمرها لأنها غير قابلة للتدمير، فالإرادة تغفو قليلاً لتستيقظ مجدداً، وتعمل بنشاط متجدد.
وخلص شوبنهاور إلى أن الإرادة البشرية (وبالتالي الأفعال) ليس لها اتجاه محدد أو منطق، بل هي عبثية. وأكد أن العالم ليس مجرد مكان فظيع تسود فيه القسوة والمرض والمعاناة فحسب، بل هو أسوأ ما يمكن أن يكون، ولو كان أكثر سوءاً مما هو عليه لزال هذا العالم من الوجود.
ويرى أنه من أجل التغلب على الإرادة لا بد من الارتقاء فوقها، ويقدم طريقة غير عادية لفعل ذلك، من خلال الفن. إذ يرى أنه في التجربة الجمالية نتخلص من الرغبات، وننسى ما إذا كان هذا الشيء مفيداً أو ضاراً، ننسى أنفسنا وآلامنا ونتحرر من مصالحنا الذاتية وإملاءات الحياة الدنيوية ومصاعب الحياة والأنانية. ووفقاً لشوبنهاور، فإن الجماليات تفصل العقل عن الإرادة ولا ترتبط بالجسد. وهو يعتبر الفن إما فعلاً محدداً مسبقاً في ذهن الفنان، قبل أن يجسده، أو فعلاً عفوياً. وفي نفس الوقت فإن الجسد ليس أكثر من معرفة ناتجة عن الإرادة.
اقرأ أيضاً: إلى من يهمه الأمر.. دراسة الفلسفة ليست ترفاً!
وافترض شوبنهاور أن الإرادة التي توجه الناس مبنية على الرغبة. وفي هذه الحالة يسمح الفن للشخص أن يختبئ مؤقتاً من ألم العالم الحقيقي، فالتأمل الجمالي يتيح للمرء عدم إدراك العالم على أنه مجرد فكرة، وهكذا يتجاوز الفن حدود العقل.
ويرى الفيلسوف أن المرحلة الثانية للتحرر بعد الفن هي التحسين الذاتي للأخلاق. وهي تشمل الزهد والإذعان للمعاناة، وإيثار الآخرين والمساعدة النزيهة للآخرين في أحزانهم والتغلب على الأنانية الشخصية. وبذلك يمكن للإنسان أن يصل إلى القداسة.
ويعتقد شوبنهاور أن إحدى طرق الهروب من الألم تكمن في التعاطف مع الآخرين، ليس فقط مع البشر، بل مع النباتات والحيوانات. ويرى أن التعاطف مع الحيوانات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بلطف الشخصية. إذ لا يمكن أن يكون الشخص الذي يعامل الحيوانات بقسوة شخصاً طيباً. وكان شوبنهاور متأكداً من أن الرحمة فقط هي التي يمكن أن تتغلب على الأنانية، وهي على وجه التحديد أساس لكل الأخلاق، وبهذا المعنى تكون فلسفته قريبة إلى حد ما من البوذية، حتى إنه كان يطلق عليه أحياناً لقب “بوذا فرانكفورت”.
اقرأ أيضًا: بين الارتياب والتفاؤل: ماذا يريد الشباب العربي؟
ولكن شوبنهاور كثيراً ما كان يناقض نفسه، فمع أنه كان ينادي بالزهد، كان يسمح لنفسه بتناول اللحوم أحياناً، وكان مغرماً جداً بالنبيذ. وما لم يذكره على الإطلاق هو أنه كان يسافر كثيراً في دول مختلفة ليستمتع بالفن. كان يعشق الرسم والموسيقى، ويعتقد أن الجمال يسمح بالتخلص من استبداد الإرادة. وأن التأمل في الفن يوقف عمل الإرادة، ويواسينا ويبعدنا عن الواقع، ويساعدنا في الانفصال عن إرادتنا، ولو أن ذلك يتم لفترة وجيزة من الوقت. وهذا هو المفهوم الأساسي للتشاؤم.
وإذا كان معظم الناس يميلون إلى التفاؤل، فالسبب في ذلك واضح. فالتفاؤل أبسط وأكثر جاذبية، ويعطي الأمل في السعادة التي يسعى إليها معظم الناس في حياتهم، ولكن للأسف هنا يكمن فخ التفاؤل. فعاجلاً أم آجلاً سيدرك المرء أن توقعاته ذهبت سُدى، وأن خيبة الأمل الكاملة تنتظره. ربما يعكس هذا التشاؤم واقع الحياة، ولكن بما أن الكثيرين لا يحبونه بطبيعة الحال، فإنهم يستمرون بالاستمتاع بالحياة، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، فحتى أكثر الأشخاص سعادة لا يمكنه الهروب من معاناة الحياة.

لقد كان شوبنهاور آخر فيلسوف ألماني حاول إيجاد نظام شامل قادر على حل المشكلات الأساسية للوجود، وكشف غموضه، وترك للإنسانية نظاماً تحليلياً جميلاً في شكل أطروحة ضخمة. والسمة المميزة لأعماله هي تنوع أفكاره. فقد بدأ فلسفته بآراء محددة حول مشاكل الوجود العامة، واختتمها بالأخلاق والجماليات، مع إيلاء اهتمام كبير لمشاكل الشخصية والأخلاق وآليات المجتمع المدني.
كان شوبنهاور يعتقد أن كل متاعب ومآسي الإنسان تنبع من الإرادة ومن الرغبات. فالناس يعانون إما لأن رغباتهم لا تتحقق أو من الملل عند إشباع رغباتهم. ومن هنا جاء التشاؤم. ينبغي للمرء أن يعرف أن المعناة فقط هي ما ينتظره في الحياة. وبخلاف ذلك، فإن من يعتقدون أنهم ولدوا ليكونوا سعداء سيشعرون بأنهم قد خدعوا.
واليوم في عالمنا الحديث، لا تزال نظرية التشاؤم صالحة كما كانت دائماً. فوفقاً لشوبنهاور، من العبث البحث عن المتعة والسعادة التي لا يمكن تحقيقها. وفي عصرنا الاستهلاكي لا يمكن للإنسان إشباع جميع رغباته أو تجاهلها، ولذلك نحن محكوم علينا بالمعاناة.
♦كاتبة من مدينة لفيف، أوكرانيا، تحمل شهادة ماجستير في الفلسفة.
المصدر: ذا كوليكتور